الفائدة والسيولة والتصريحات المتضاربة
تبدو الأسواق المالية مفرطة في التفاؤل بشأن مصير معدلات الفائدة في الفترات المقبلة، حيث أتت ردود فعل سريعة عقب اجتماع مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي قرر ترك معدلات الفائدة الرسمية كما هي عند 5.5 في المائة، كسقف أعلى لمعدل التمويل الفيدرالي، وارتفعت مع ذلك التوقعات بأن يبدأ مسلسل خفض معدلات الفائدة بدءا من مارس العام المقبل. اندفاع الأسواق في هذا الاتجاه نتجت عنه ارتفاعات واسعة في أسواق الأسهم والسندات، انخفض معها عائد الأعوام العشرية الحكومية إلى ما دون 4 في المائة، لكن وسط هذه الأجواء التفاؤلية جاءت تصريحات وردود أفعال مثبطة ومحذرة، بعضها من أعضاء كبار ومؤثرين في مجلس الاحتياطي نفسه، وبعضها من جهات أخرى مثل صندوق النقد الدولي، الذي حذر البنوك المركزية من المسارعة في خفض معدلات الفائدة لديها دون تريث ودراسة أوضاعها الخاصة.
التصريحات المتضاربة ليست جديدة في حد ذاتها، حيث حدث عدة مرات أن يسارع أحد أعضاء مجلس الاحتياطي بتصحيح بعض العبارات أو إبداء بعض التحفظات على ما يتم التصريح به رسميا في الاجتماعات، أو تجاه ما يصرح به رئيس المجلس، لكن هذه المرة يبدو أن المسؤولين في المجلس لم تعجبهم ردود أفعال الأسواق، فظهر بعضهم مؤكدا أنه لا يمكن الجزم بإجراء خفض في الفائدة في مارس المقبل، وأنه طالما أن نسبة التضخم المستهدفة عند 2 في المائة سنويا لم تتحقق فلا يمكن الجزم بحدوث أي خفض، وذلك تردد على ألسنة كل من رؤساء البنوك الفيدرالية في نيويورك وبوسطن وشيكاغو.
مصدر التحفظات هذه ليس فقط التضخم، فالمتابع يعلم أن قائمة المركز المالي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي لم تتقلص كما كان يؤمل فيه، حيث لا تزال أصول الفيدرالي أكثر من 7.7 تريليون دولار، معظمها جاء نتيجة التعامل مع أزمة كورونا، ومن الواضح أن الفيدرالي سيواجه صعوبة كبيرة في بيع هذه الأصول دون امتصاص سيولة كبيرة من الأسواق، وبالتالي ارتفاع معدلات الفائدة.
ينظر المراقبون إلى مستويات أرصدة اتفاقيات إعادة الشراء التي انخفضت الآن إلى 800 مليار دولار، وهي السيولة النقدية المتاحة للفيدرالي الناتجة عن قيام المستثمرين في أسواق النقد بإيداع ما لديهم من سيولة لدى الفيدرالي لتحقيق عوائد سريعة تتجاوز 5.3 في المائة، وفي حال خفض معدل الفائدة الرسمي ستجف سيولة هذه الاتفاقيات، وعندها ستصعب عمليات تمويل الحكومة الأمريكية دون قيام الفيدرالي بشراء الأصول في عمليات ستعاود رفع حجم أصول الفيدرالي، على عكس ما يهدف إليه.
الفيدرالي مهتم بأمر السيولة البنكية، وقد صرح رئيس الفيدرالي هذا الأسبوع بأنه مرتاح لمستويات السيولة، التي تقدر حاليا بنحو 3.5 تريليون دولار، وأنه على استعداد للتخفيف من عمليات امتصاص السيولة أو إيقافها تماما عند الحاجة، لكن المراقبين غير متأكدين من أن هذه الاحتياطيات كافية لتمويل المرحلة المقبلة من متطلبات النشاط الاقتصادي ودعم الميزانية الحكومية.
الأزمة البنكية في مارس 2023 أربكت حسابات البنوك من عدة جوانب، أهمها أنها كشفت للبنوك أن الاعتماد على العوائد العالية المتحققة لأرصدتها لدى الفيدرالي ليس بلا ثمن، حيث بدأ العملاء المطالبة بعوائد أعلى من ذي قبل، ولا سيما أن هناك بدائل في أسواق النقد وغيرها مما يمنح عوائد عالية ومنافسة للبنوك، لذا اضطرت البنوك إلى رفع عوائد الحسابات وشهادات الإيداع البنكية للمحافظة على ودائع العملاء. وعلى الرغم من الهبوط الحاد لعوائد السندات طويلة المدى، بالذات العشرية منها، إلا أن بقاء معدلات الفائدة على المدى القصير عالية عند مستويات تتجاوز 5 في المائة حاليا سيربك البنوك، وسيبقى منحنى عوائد الاستحقاق بشكل منعكس لفترة أطول مما كان يعتقد سابقا.