سوق العمل والمتغيرات المقلقة
تظل مستويات البطالة حول العالم مسألة نقاش وحوار عميق تثير القلق المتصاعد على الساحة الدولية. وعلى الرغم من بعض التحسن الذي طرأ على سوق العمل عموما في الأعوام القليلة الماضية، إلا أن التحولات الجديدة وتلك المتجددة، أعادت زخم التحديات في هذه السوق، بما في ذلك الأزمات الطارئة التي ضربتها بسبب تفشي جائحة "كورونا" في مطلع العقد الحالي. ففي 2019 بلغ عدد العاطلين عن العمل حول العالم 186 مليونا، ليصل حتى نهاية العام الماضي إلى 207 ملايين. أمام هذه الأرقام المرتفعة والمخيفة في الوقت نفسه، هناك مسببات تكاد لا تنتهي لارتفاع مساحة البطالة، من بينها التوترات الجيوسياسية المستمرة، والمواجهات العسكرية هنا وهناك، والموجة التضخمية الأخيرة، وهناك أيضا التحولات الراهنة على صعيد الذكاء الاصطناعي، فضلا عن كثير من العوامل التي تضع الجهات الدولية المعنية، في خضم ساحة متقلبة ومتطورة ومتأثرة.
منظمة العمل الدولية، تتحرك في كل الاتجاهات من أجل معالجة المشكلات ذات الصلة في سوق العمل عموما. علما بأن بعض التحولات التي تحدث بالفعل، يمكن أن تتحول إلى فرص لدفع عجلة التوظيف والتشغيل إلى الأمام، بما في ذلك قطاع الذكاء الاصطناعي. فهذا الأخير رغم ما يسببه من خفض نسبة العاملين الأفراد، إلا أنه يوفر الفرص لانطلاق العاملين الشباب نحو مزيد من الساحات، خصوصا إذا ما سارت عملية التأهيل والتعليم بما يتوافق مع متطلبات هذا القطاع الذي يتوسع يوما بعد يوم. وبحلول 2030 سيحتاج العالم إلى توفير 24 مليون وظيفة جديدة، وهذا أحد التحديات المزعجة. لذلك لا بد من زيادة زخم التأهيل والتعليم عموما، لصنع مزيد من الفرص التشغيلية، ولا سيما في القطاعات الجديدة، أو تلك التي تتسم بالتجدد.
وساحة الذكاء الاصطناعي تظل الأكثر حضورا في المشهد الراهن. فهذه التقنية العالية من التطور والابتكار، ستؤدي حتما إلى خفض الأجور، نظرا لتراجع تكاليفها التشغيلية عموما، لكنها تبقى ميدانا لفرص عمل جديدة تستقطب شرائح الشباب. ووفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تصل نسبة البطالة في أوساط الشباب عالميا إلى 17 في المائة، وهذا معدل مرتفع. غير أن هذه الساحة ليست الوحيدة التي يمكن أن توفر فرص عمل لكل الشرائح فحسب، بل هناك أيضا ميدان البنية التحتية، الذي بات في العقود الماضية ركيزة رئيسة على صعيد رفع أداء القطاعات عموما، وزيادة معدلات التشغيل فيه. وهنا تبرز أهمية الاستثمارات في هذا القطاع، الذي يضمن أيضا أساسا للمتغيرات التقنية والتكنولوجية، واستحقاقاتها. وعلى رأس ذلك، التوسع في البنية التي تقوم عليها الشبكة الدولية "الإنترنت". فهذه الأخيرة، تبقى الهدف الأهم في التطوير، مقارنة ببقية الأهداف، نظرا لتسارع الترابط الإنتاجي والبشري عبرها.
ولا شك في أن المجالات المتاحة لزيادة أعداد العاملين تحتاج أيضا إلى استثمارات متواصلة، بما في ذلك "الاقتصاد الأخضر"، الذي دخل في مسار الاقتصاد العالمي بقوة منذ عقدين على الأقل، ويسهم حاليا في دعم حالة الاستدامة للاقتصاد الدولي عموما. والاقتصاد الأخضر، سيوفر (وفق منظمة العمل الدولية) ما يزيد على ثمانية ملايين وظيفة بحلول 2030، ما يمنح الجهود المبذولة لخفض عدد العاطلين، قوة دفع مهمة. إنها عملية معقدة، تحتاج إلى مزيد من الابتكار والاستثمار، إلا أنها أيضا يمكن أن تحظى بقفزات نوعية نتيجة استغلال جيد للتحولات الراهنة على الساحة العالمية. فالبطالة التي نتحدث عنها، خصوصا في أوساط الشباب، لا تختص فقط بالدول النامية أو الفقيرة، بل تشمل أيضا دولا متقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا. والهدف الأول يبقى العمل على تشغيل الشباب من الجنسين، واستفادتهم من التحولات والتطورات التي تجري على الأرض.