الذكاء الاصطناعي .. مشهد البحث والتطوير
لا شك أن أهمية الذكاء الاصطناعي باتت، في أذهان الجميع، أمرا لا ريب فيه. ويستلزم ذلك متابعة هذا الأمر والاطلاع على ما يجري حول العالم بشأنه، حرصا على الاستعداد للمستقبل، بما يشمل إدراك التوجهات القائمة من جهة، والقيام بالاستجابة الفاعلة لها من جهة أخرى. ويسهم "تقرير دليل الذكاء الاصطناعي"، الذي تصدره جامعة ستانفورد الشهيرة سنويا في توفير الاطلاع المنشود. وقد قدمنا في المقال السابق نظرة عامة إلى مشهد الذكاء الاصطناعي في العالم استنادا إلى مضامين هذا التقرير، في إصداره عام 2023. وسنركز في هذا المقال على جانب البحث والتطوير من هذا المشهد، ولعلنا نطرح أيضا الجوانب الأخرى في مقالات قادمة بمشيئة الله.
عندما نقول البحث والتطوير فنحن أمام مهمتين رئيستين. الأولى، هي البحث الذي تتمثل مخرجاته في تقديم أفكار جديدة أو متجددة، جرى توثيقها بالتفكير العلمي والتجربة العملية. الثانية، هي التطوير الذي ينهل من أفكار البحث ليقدم مخرجات تحمل قيمة، عبر قابليتها للاستخدام وتقديم فوائد مادية. وفي هذا الإطار نجد أن مخرجات البحث يمكن أن تأخذ طريقها إلى النشر العلمي حاملة فوائد حضارية للجميع حول العالم من جهة، أو إلى التطوير متوجهة نحو تقديم منتجات تحمل فوائد مادية من جهة أخرى.
على أساس ما سبق، نجد أن مشهد البحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي، طبقا لتقرير ستانفورد يأخذ جانب النشر العلمي في الذكاء الاصطناعي في الحسبان من جهة، ويهتم أيضا بجانب المخرجات المتمثلة في أنظمة تعلم الآلة والاستجابة للأعمال المختلفة من جهة أخرى. وسنطرح في التالي الملامح الرئيسة المرتبطة بكل من هذين الجانبين.
بلغ مجمل النشر العلمي حول العالم، في مجالات الذكاء الاصطناعي المختلفة نحو "نصف مليون"، خلال 2021، وقد ارتفع هذا العدد عن مثيله لعام 2010، بمقدار مرتين ونصف. وجاءت المؤسسات الأكاديمية في قمة مصادر هذا النشر عبر الفترة الزمنية 2010 إلى 2021، حيث بلغ إسهامها نسبة تجاوزت 75 في المائة. واللافت هنا أن تسع مؤسسات أكاديمية صينية احتلت المراكز التسعة الأولى في النشر العلمي في الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، لعام 2021، وكان المركز العاشر من نصيب معهد ماساشوستس التقني الأمريكي الشهير.
شملت قطاعات النشر العلمي، إضافة إلى المؤسسات الأكاديمية، كلا من المؤسسات غير الربحية، وشركات القطاع الخاص، والمؤسسات الحكومية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قطاعات النشر العلمي هذه لم تعمل بشكل منفصل عن بعضها تماما، فقد أورد تقرير ستانفورد حقيقة أن جزءا من النشر العلمي للقطاع الأكاديمي لعام 2021، كان بالتعاون مع كل من القطاعات الثلاثة الأخرى، كما أن نشر تلك القطاعات، كان جزئيا حصيلة التعاون فيما بينهم.
لم يقتصر التعاون في النشر العلمي على مستوى القطاعات سابقة الذكر، بل تضمن أيضا مستوى الدول. فقد أورد تقرير ستانفورد وجود تعاون ثنائي بهذا الشأن بين الولايات المتحدة، وكل من الصين وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وأستراليا، كما ذكر أيضا وجود تعاون بين الصين وبريطانيا والصين وأستراليا. وقد احتل التعاون بين أمريكا والصين المركز الأول في حجم النشر العلمي الناتج عنه بين ثنائيات التعاون هذه، وكان المركز الثاني من نصيب التعاون بين الصين وبريطانيا.
تضمنت الموضوعات الرئيسة لمعطيات النشر العلمي التالي، التعرف على الأنماط، وتعلم الآلة، وتطوير الخوارزميات الخاصة، واستخراج المفيد من البيانات أو تعدين البيانات، ومعالجة اللغات الطبيعية، ونظريات التحكم، والتفاعل بين الإنسان والآلة، إضافة إلى علوم اللغويات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الموضوعات مرتبة هنا تسلسليا تبعا لحجم النشر العلمي في كل منها.
في إطار مجمل النشر العلمي لعام 2021، بلغت نسبة الأوراق البحثية العلمية المنشورة في مجالات محكمة نحو 60 في المائة من مجمل النشر العلمي لعام 2021، وكانت نسبة الرسائل الجامعية نحو 6 في المائة، ونسبة الكتب نحو 0.5 في المائة. وتصدرت الصين دول العالم في حجم نشر هذه الأوراق، بنسبة قدرها نحو 40 في المائة، وتلتها بعد ذلك مجموعة دول الاتحاد الأوروبي مع بريطانيا، ثم الولايات المتحدة، فالهند، وبعد ذلك دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ننتقل من النشر العلمي، إلى بناء أنظمة تعلم الآلة لأداء التطبيقات المختلفة، حيث بين تقرير ستانفورد أنه تم تطوير 37 نظاما، عام 2022، في تطبيقات تختص بمجالات: اللغة، والوسائط المتعددة، والرسم والرؤية والكلام، وتحويل النصوص إلى فيديوهات، إضافة إلى الألعاب. وقد احتلت أنظمة اللغة المركز الأول في عدد هذه التطبيقات، حيث بلغ عدد أنظمتها 23. وقد تفوقت الشركات الصناعية على المؤسسات الأكاديمية في تطوير أنظمة تعلم الآلة بمختلف مجالاتها، فقد بلغ عدد أنظمة الشركات 32 نظاما وعدد أنظمة المؤسسات الأكاديمية ثلاثة فقط. وارتبطت الأنظمة الأخرى بمصادر أخرى.
كما تفوقت الصين على الولايات المتحدة في النشر العلمي، تفوقت الولايات المتحدة على الصين في تطوير أنظمة التعلم الآلي، حيث استطاعت تطوير 44 في المائة من هذه الأنظمة، في مقابل 22 في المائة لبريطانيا، و8 في المائة للصين، والباقي لدول العالم الأخرى. واللافت أن الدولة الآسيوية الصغيرة سنغافورة، كانت بين الدول التي قامت بتطوير نظاما واحدا من هذه الأنظمة، مثلها في ذلك مثل كل من ألمانيا، وفرنسا، وروسيا.
هذا هو مشهد البحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي، على مستوى العالم، كما رصده دليل ستانفورد. يتميز هذا المشهد، ببحوث علمية منشورة، وأنظمة تتضمن تطبيقات متطورة، وذلك عبر تنافس وتعاون ليس بين القطاعات المعرفية فقط، بل بين الدول أيضا.
إذا أردنا أن نستفيد من إمكاناتنا ليس فقط في النظر إلى المشهد، بل في الإسهام فيه أيضا، فإن علينا أن نلاحظ أولا أن لدينا مؤسسات أكاديمية متميزة، وشركات ذات امتداد عالمي، وجهة حكومية أثبتت نفسها هي هيئة الذكاء الاصطناعي، وعقول شابة قادرة. ثم علينا بعد هذه الملاحظة أن نسعى إلى تمكين هذه الأطراف من العمل والإنجاز معا، بفاعلية وكفاءة ورشاقة، استعدادا لمستقبلنا المضيء المنشود، في عصر الذكاء الاصطناعي المقبل.