التجارة النزيهة .. للمنتجين والمستهلكين

يفسر معظم الاقتصاديين النمو الاقتصادي بأنه معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي لبلد ما، ويتم تعريف الناتج المحلي الإجمالي في هذا السياق بأنه القيمة السوقية الإجمالية لجميع السلع والخدمات النهائية التي تنتجها دولة ما خلال عام معين، أو في بعض الحالات، معدل نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
كل هذا التعريف يعد قاصرا، لأنه لا يحمل في طياته معالجة مشكلة عدم المساواة، والفقر، فقد يكون النمو أعرج أو متذبذبا، أي يستفيد منه البعض ويحرم منه كثير، لذلك ظهرت نماذج أخرى من تعريفات النمو تأخذ في حسبانها هذه القضايا، من بينها مفهوم النمو الشامل الذي يشير إلى عملية النمو التي تضمن المساواة في وصول الفرص إلى جميع شرائح المجتمع بغض النظر عن ظروفهم الفردية. ومن ثم، فإن النمو الشامل يسعى إلى تقليل عدم المساواة في النتائج، لضمان توزيع فوائد النمو بالتساوي بين السكان. وهذا يحدث أساسا إذا تم تعزيز قدرة الاقتصاد على توليد مزيد من الفرص للناس ليعيشوا حياة كريمة وآمنة، كما أنه يعمل على تعزيز القدرات وتحسين الوصول إلى الفرص، خاصة تلك المتاحة للمجتمعات الفقيرة والضعيفة.
وقد مرت حقبة اقتصادية كانت تروج للعلاقة بين التجارة الحرة والنمو الشامل، حيث يرى المؤيدون أن الأولى يمكن أن تسهم في الثانية من خلال دعم الكفاءة الاقتصادية، وتعزيز المنافسة، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وصنع فرص العمل، وينظرون إلى أنه من خلال إزالة الحواجز التجارية، يمكن للدول أن تتخصص في إنتاج السلع والخدمات التي تتمتع فيها بميزة نسبية، وهذه التفسيرات تجد جذورها في كتاب المفكر الاقتصادي آدم سميث "ثروة الأمم"، حيث يقول "إن التجارة الحرة تسمح للدول بتخصيص مواردها بشكل أكثر كفاءة، ما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية والنمو الاقتصادي، وإنه من خلال التخصص في صناعات معينة، يمكن للدول الاستفادة من وفورات الحجم وإنتاج السلع بتكاليف أقل، ما يفيد المنتجين والمستهلكين على حد سواء". فالتجارة الحرة تقوم على مبدأ الميزة النسبية، الذي يشير إلى أن الدول لا بد أن تتخصص في إنتاج السلع والخدمات التي تكون فيها تكلفة الفرصة البديلة أقل، والتجارة مع الدول الأخرى في السلع والخدمات التي تكون تكلفة الفرصة البديلة فيها أعلى، ومن المزاعم التي تدعم التجارة الحرة أنها مفيدة للمستهلكين، فعندما تفتح الدول أسواقها أمام المنافسة الدولية، يواجه المنتجون المحليون ضغوطا لتحسين كفاءتهم وجودتهم حتى يظلوا قادرين على المنافسة.
وهذا يؤدي إلى انخفاض الأسعار بالنسبة إلى المستهلكين وتشكيلة واسعة من السلع والخدمات للاختيار من بينها. وأمام هذه المزاعم انخرط العالم - خاصة الدول النامية - في اتفاقيات التجارة الحرة، وفتحت أبوابها للشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات، آملين الفوز بكعكة النمو الشامل، الذي يضمن لها المساواة في توزيع الدخل العادل.
ومع ذلك، من المهم أن نلحظ أن العلاقة بين الطرفين ليست تلقائية أو مضمونة، فالمنتقدون يرون أن الأولى يمكن أن تؤدي إلى تفاقم التفاوت في الدخل وتؤدي إلى فقدان الوظائف في قطاعات معينة، خاصة في الصناعات غير القادرة على التنافس مع الواردات الأرخص، كما أن فوائد التجارة الحرة تعود في الأغلب وبشكل غير متناسب على شرائح معينة من المجتمع، مثل الشركات الكبيرة أو العمال المهرة.
ووفقا لتقرير نشرته صحيفة "الاقتصادية" فقد صمم نظام التجارة العالمي الحالي ليصب في مصلحة الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات أكثر من الدول، فاتفاقيات التجارة الحرة ومعاهدات الاستثمار الثنائية، تسمح للشركات الأجنبية بمقاضاة الحكومات على أي شيء يحجمها عن تحقيق الأرباح، بما فيها لوائح المناخ، وتدابير الاستقرار المالي، وسياسة الصحة العامة، وأي من المجالات الأخرى التي تكون من اختصاص الدولة عادة، ويؤكد التقرير على حجم هذه المشكلة، الذي تم نشره خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" 2022، حيث رفعت خلال عام 1257 قضية تسوية بين دولة وشركة أجنبية مستثمرة، بإجمالي مطالبات قدره 46.9 مليار دولار. اللافت للنظر أن المستثمرين الأجانب فقط هم من لديهم حقوق ويمكنهم رفع مطالبات تشمل تعويضا عن الخسائر الفعلية والمستقبلية أيضا.
وقد نجحت الشركات الأجنبية في استغلال الأحكام ذات الصياغة الغامضة في اتفاقيات التجارة والاستثمار التي يفرضها نظام تسوية المنازعات من أجل مطالبات ضد التدابير الديمقراطية المتخذة للمصلحة العامة التي تعتقد أنها أضرت بمصالحها التجارية، أو التهديد برفعها، وتم الاعتراض فعلا على تدابير الإغلاق أثناء الجائحة في تشيلي، ورفعت شركة هواوي في السويد قضية ضد التدابير التي تحد من مشاركتها في شبكة الجيل الخامس بسبب مخاوف أمنية.
وكما يلحظ، فإن الشركات الأجنبية العابرة للقارات تعود إلى دول غنية، ولهذا تتعرض الدول الأقل نموا والفقيرة للتعسف من مطالبات هذه الشركات ضد الإجراءات التي تعد مفيدة للمصلحة العامة "مثل رفع معايير الصحة أو العمل" إلى مطالبات بمليارات الدولارات التي لا يمكنها دفعها.
ودول كثيرة، منها الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وبعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وجنوب إفريقيا والهند وإندونيسيا والإكوادور، تعد اتفاقيات تسوية المنازعات بين الدول والمستثمر المستقبلية أو توقفها، وحتى تحاول الانسحاب من اتفاقيات سارية، وعملت الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، على اتفاقية تحل محل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا"، بحيث تتضمن الاتفاقية الجديدة حكما يلزم الشركات باستنفاد جميع سبل الانتصاف المحلية قبل اللجوء إلى نظام تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر.
هذا الاتجاه نحو الانسحاب من الاتفاقيات السارية سيثير مخاوف المستثمرين، لكنه يمثل دعوة واضحة لدول العشرين على الأقل لإيجاد حل أكثر عدلا، ويبدو أن الطرق ممهدة لمعاهدة جديدة تحل محل الاتفاقيات القديمة، في ظل وجود جولات جديدة من الحوار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي