عندما تسود فلسفة التوحش السلوك البشري

لا علم لي إن كان لدينا في العلوم الفلسفية أو علوم الخطاب أو علوم الإعلام شيء اسمه "فلسفة التوحش". مصطلح مثل هذا لم يخطر في بالي طوال مسيرتي الأكاديمية التي تمتد إلى ثلاثة عقود ونيف. أقرب ما توصلت إليه في أبحاثي وكتبي التي أغلبها تدور حول تحليل الخطاب كان مصطلحا استخدمته لأول مرة في مقال لم ينشر حتى اللحظة أطلقت عليه بالإنجليزية Leviathan Discourse أي خطاب لوياثان أو خطاب ليفياتان.
مفهوم "فلسفة التوحش" ـ إن كان لنا أن نسك مصطلحا مثل هذا ـ راودني وأنا أقرأ الصحافة الغربية وتغطيتها للأحداث الرهيبة والمفزعة والمخيفة التي تقع في الشرق الأوسط. سأتجنب التسميات لأنه يبدو أننا صرنا وأغلب العالم معنا نعيش في عصر تحتل السلوك والإعلام فيه فلسفة التوحش، أو بالأحرى خطاب لوياثان.
ما هي فلسفة التوحش يا ترى، وما لها وخطاب لوياثان؟
نبدأ بالفلسفة أولا ونقول إن الفلسفة philosophy مصطلح يوناني مركب من مفردتين تعنيان "حب الحكمة"، بوساطتها نتطلع لفهم الحقائق الأساسية أولا عن من نحن ومن ثم عن العالم حولنا. بعبارة بسيطة، الفلسفة تدرس السلوك وتفرز بين السلوك الإنساني السوي والسلوك الإنساني الخاطئ.
التوحش يحدث عندما يفقد الإنسان ميزة الفرز بين ما هو إنساني وغير إنساني. بعبارة أخرى، يقع الإنسان فريسة لنزعة التوحش في داخله بدلا من إحكام العقل والحكمة عند التصرف. الفلسفة تعيدنا إلى رشدنا وتجعل الحكمة والعقل يديران سلوكنا. إذا ليس هناك ما يمكن أن نطلق عليه "فلسفة التوحش". الحكمة مرادفة للفلسفة وليس التوحش، والتوحش ليس من الحكمة في شيء.
متى يصبح التوحش فلسفة؟ يصبح التوحش فلسفة عندما نسبغ عليه سمات العقل والحكمة، ونرى أنه الوسيلة السوية للسلوك الإنساني.
عندما تمطر الطائرات الحربية قنابل تزن مئات الأرطال وذات قوة تفجيرية هائلة المناطق السكنية المكتظة بالأطفال والنساء والمدنيين ونقتل المئات، وعذرنا أننا أنذرناهم ولم يغادروا، هنا نحن نعمل حسب مفهوم "فلسفة التوحش".
عندما نقتل الأبرياء بينهم الأطفال والنساء والشيوخ وبعدها نقدم الأعذار، هنا أيضا نحن نعمل حسب مشيئة فلسفة التوحش.
نشن الحروب ونفرض حصارا، مانعين الماء والدواء والغذاء ومن ثم نقدم أعذارا لذلك مهما كانت فنحن نتاج فلسفة التوحش والسلوك الإنساني غير السوي.
ووقت نحتل شعبا ونشن حربا متكئين على طوفان من الأكاذيب ونصادر أراضيه الخصبة ومياهه العذبة ونبني جنة من المستعمرات فيها، والشعب هذا يعيش تحت الفقر والذل والهوان، نحن نمثل فلسفة التوحش خير تمثيل.
ولحظة نتصرف على أساس أن الطرف الذي نقصفه بالقنابل ونهاجمه بالبنادق والرشاشات يمثل الشر وأفراده مجرد "حيوانات بشرية"، فإن سلوكنا نابع من فلسفة التوحش التي صارت تقودنا بدلا من فلسفة الحكمة والعقل.
عندما نأمر شعبا تعداده مليونان ونصف وأكثر أن يغادر مدنه وقراه إلى الصحراء وإن لم يفعل قصفناه ودمرنا مدنه على رأسه، فهذه ليست إلا فلسفة التوحش التي تعشعش في رؤوسنا.
لن أسترسل أكثر لأن القارئ اللبيب في إمكانه الآن إضافة قائمة طويلة من الأمثلة الحية للبرهنة أن هناك في عالمنا هذا نماذج حية لفلسفة التوحش التي يبدو أنها صارت رائدة في عالم القرن الـ21.
مع كل هذا، وكل الأدلة على أن الذي يقع أمام ناظرنا ليس إلا تجسيدا لفلسفة التوحش، نرى أن الإعلام في الغرب، بدلا من كشف توحش السلوك الإنساني هذا، يبذل جهده في تبني خطاب يرى فيه أنه السلوك أو الرد الإنساني السوي.
لقد سقط الإعلام الغربي أخيرا لأنه انطلق من ثنائية مقيتة وهي ثنائية الخير والشر، وأخذ يرى في فلسفة التوحش أنها رأس الحكمة التي تقود السلوك الإنساني السوي.
وصار الخطاب الإعلامي الذي نقرأه مثل خطاب لوياثان أو خطاب ليفياتان الذي يمنح الحق للقوة الغاشمة ليس فقط أن تفرض إرادتها وسطوتها على الذين تحتلهم أو تحكمهم أو تسيطر عليهم وتوغل في قتلهم، بل أن تفرض نمطا خطابيا واحدا أوحد على الفضاء الثقافي والإعلامي والاجتماعي والويل لمن حاد عنه.
وانظر الرتابة والتكرار والإصرار على أطر خطابية موحدة في أغلب الإعلام الغربي وانظر كم كاتب أم صحافي جرى فصله أو تأنيبه والكم الهائل من الحسابات التي يتم حذفها أو طمسها في وسائل التواصل الاجتماعي فقط لأنها تحيد عن الخطاب الذي يرافق فلسفة التوحش.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي