التقنية التنظيمية .. المفهوم الأوسع والأهم
ليس جديدا هو مفهوم التقنية التنظيمية الذي يعد امتدادا لمجموعة الأوصاف المختصرة للتقنيات المختصة، مثل: Fintech،Agritech ، Proptech وغيرها. كان وما زال الاستخدام الأكبر لهذا المفهوم مرتبطا بتطبيقات الالتزام بتشريعات المؤسسات المالية. لكن استخدامه في سياق القطاع المالي يعد استخداما محدود جدا مقارنة بتطبيقاته وممارساته في المجالات الأخرى. تعد مفردة RegTech اختصارا لـRegulatory Technology وتترجم بطرق مختلفة إلى التقنية الرقابية أو التنظيمية أو تقنيات الامتثال، ويقصد بها: التطبيقات والممارسات التقنية التي تمكن الالتزام بالتنظيميات والتشريعات في مختلف المجالات والصناعات. يرتبط هذا المفهوم بمعناه الواسع ارتباطا وثيقا بالحكومات الرقمية، إذا تسعى ممارسات الحكومة الرقمية إلى استخدام التقنية وبنية الاتصال التحتية لإيصال الخدمات الحكومية وتحسين التفاعل مع المواطن وتسهيل الإجراءات الإدارية، بينما تشمل ممارسات التقنية التنظيمية التفاعلات التقنية التي تمكن من التجاوب مع ممارسات الحكومية الرقمية وتضمن كذلك كفاءة تفاعل الأطراف الثلاثة "الحكومة ـ القطاع الخاص ـ المواطن" بشكل يسهل ويساعد على تحقيق المستهدفات التنموية.
رغم أن الأخطار التنظيمية تصف ما يعرف بالعبء التنظيمي الذي يرفع التكاليف على القطاع الخاص ويجعل تطورها يمرر في نهاية اليوم إلى المستهلك بشكل تكلفة إضافية إلا أن تطور التقنية التنظيمية يحمل كما هائلا من المنافع المستدامة للفرد والقطاع الخاص ويمكن دون أدنى شك من تفاعل الجهات الحكومية إجمالا سواء كانت رقابية أو تشغيلية بشكل إيجابي ومؤثر. أولى هذه المنافع هو تسهيل عملية الالتزام بالتنظيمات وتخفيف العبء المرتبط بتكلفة الالتزام. والثاني تحسين تطبيقات التقنية الرقابية من الكفاءة الحكومية ما يعني سرعة أكبر في الاستجابة للاحتياجات ومرونة أعلى في التعاطي مع التحديات المختلفة. ولأن التقنية إجمالا تسهل بشكل استثنائي من جمع البيانات وفهم الأنماط والسلوك لتساعد الجهات الحكومية على فهم الأخطار وإدارتها بشكل استثنائي سواء تلك المرتبطة بالأمن أو الاقتصاد أو غير ذلك ـ شريطة إدارة البيانات وتحليلها بشكل ملائم. تساعد هذه البيانات على تحسين القدرة على صياغة وتحسين السياسات ومواءمتها مع احتياجات السوق والتنمية. من المنافع الكبرى إعادة تدوير المعرفة الناتجة بين مؤسسات المجتمع، ما يساعد على تحقيق الشمول المالي وتفعيل البرامج الاجتماعية والاقتصادية بشكل أكثر فاعلية.
هناك دون أدنى شكل فوائد استراتيجية واقتصادية أخرى، فالتطور المتوازن بين الحكومة الرقمية وبين تطبيقات التقنية التنظيمية يساعد على تهيئة البيئة المحلية لجذب الاستثمارات ويسهل من ممارسة الأعمال ويسرع من وتيرة تفاعل الشركات الناشئة مع المتطلبات النظامية، ما يحسن من بيئة الابتكار ويجعلها أكثر تطورا.
ليس من المفاجئ أن يكون هناك ارتباط وثيق بين تطور ممارسات التقنية التنظيمية والممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة ومعاييرها، وهذا ليس من جوانب الالتزام بهذه المعايير فقط، بل إن التجربة أثبتت ـ وتطور مؤشرات المملكة في الحكومة الرقمية في المملكة خير مثال ـ أن تطور ممارسات التقنية التنظيمية يسهم وبشكل مباشر من تحقيق عدد غير قليل من المستهدفات البيئة والاجتماعية. عندما تتحول الخدمة الحكومية إلى خدمة رقمية تقابلها تقنية تنظيمية من طرف الملتزمين بها والمستفيدين منها، تسرع عملية هذه الإضافة من تمرير القيمة المستهدفة وتشمل في العادة قائمة طويلة من المكاسب الأخرى مثل تقليل أعداد السيارات التي تعبر الشوارع وطباعة الأوراق.. إلخ.
من اللافت كذلك أن تطور نماذج العمل المرتبطة بالتقنيات التنظيمية يفتح أسواقا جديدة ويخدم السوق والتنمية بطرق مبتكرة. على سبيل المثال، تتطلب عملية الالتزام التقليدية التي تستغل التقنية لتصبح أكثر كفاءة إلى التعامل مع مقدمي خدمات جدد يقومون بأعمال الفحص والرقابة والتسلم والتسليم. وهذا يعني التقليل من تنقل موظف الحكومة الذي يحمل قائمة المتطلبات ويزور المصنع والمزرعة والمرفأ والمتجر، مقابل مزيد من التعامل مع القطاع الخاص ليقدم خدماته نيابة على الحكومة في نموذج مثالي لإشراك القطاع الخاص، يتبادل به المنافع ويسرع من وتيرة الإنجاز ويجعل المنظم أذكى والمستفيد أكثر رضا. وبكل تأكيد، لا تحدث هذه القيمة الرائعة بشكل تلقائي، إذ إن التقنية التنظيمية ذاتها بحاجة إلى تشريعات تحمي المتعاملين معها وتؤكد تحقيقها المستهدفات التي وضعت من أجلها.