فن المبالغة في عالم الأعمال
تحدثنا في المقال السابق بإيجاز عن فن المبالغة واختلاف استخداماته في سياقات ايصال المعنى والتأثير المتنوعة: الأدبية والمعرفية وغير ذلك. واليوم نسلط الضوء على هذه الممارسة في عالم الأعمال تحديدا، حيث تأخذ المبالغة في التواصل العملي أشكالا عدة، منها المقبول بل المطلوب أحيانا ومنها غير المقبول. وأقول إن فهم حدود ذلك مطلب أساسي لكن من يريد أن يفهم ويؤثر، البعد عن المبالغة تماما يصنع أساليب تواصل جافة وقاصرة، والمبالغة في استخدام المبالغة يحفز الجدل ويفقد المصداقية. تأتي المبالغة بطرق وأشكال عدة، منها ما يستخدم في العبارات المجازية المعتادة والمبتكرة ومنها ما يقع حين نضرب الأمثلة المباشرة، والأكثر استخداما ورواجا مما كان مختصا بالمشاعر والأوصاف غير المحسوسة، وقد يقع أحيانا في مسائل قابلة للطرح الموضوعي.
هناك عدد من الأسئلة التي ينبغي طرحها لنعرف إن كنا بحاجة إلى المبالغة وأي شكل من أشكالها نستخدم ومتى نبتعد عنها ونحذر منها؟ إجابة هذه الأسئلة سيجعل الأمر أكثر وضوحا لمن يطرح المبالغة أثناء تواصله ولمن يستقبلها كذلك. من الجيد أن يضع مستقبل المبالغة نفسه في مكان الطرف الآخر لكيلا يتعجل بالحكم على ما يسمع، وليصل بالحوار إلى مقصده وهدفه. إجابة هذه الأسئلة تأتي في سياق معرفة وسيط المبالغة، هل هو حوار عادي أم نقاش ساخن، ورشة عمل، أو مذكرة مكتوبة مرسلة أو حتى ورقة معرفية رصينة وجدية. من البديهي في البداية معرفة طبيعة الوسيط الذي نقيم المبالغة من خلاله وإدراك البروتوكول المعتاد أو التوقعات المعتبرة به.
السؤال الأول الذي يطرح يجب أن يكون: هل نحتاج إلى المبالغة في حوارنا؟ والإجابة تعتمد على مدى بساطة ووضوح الفكرة في أساسها، ومدى وضوحها للمتلقي. أي إن تقييم معرفة وثقافة المتلقي للسياق الخاص بالمعلومة أو الفكرة المستهدفة يشكل جزءا أساسيا من الإجابة. المتلقي البعيد جدا عن طبيعة هذه الفكرة قد يحتاج إلى الاستفادة من استعارة واضحة وربما مرتبطة ببيئته وخلفيته، هنا لا تكون الاستعارة بالضرورة دقيقة ومطابقة للمعنى المنشود، ولكنها تلفت انتباهه إلى القياس والمقارنة اللذين يجب أن يقوم بهما لفهم المطروح. قد يتصاعد هذا الاحتياج إذا كان موضوع النقاش يقود إلى نتائج متباينة. النقاش مثلا حول انتهاز فرصة استثمارية قد يتطلب طرح نتائج تنفيذ الفرصة ونجاحها بشكل جدي، إذ يتناول أعلى احتمالات النجاح ويتناول أعلى احتمالات الفشل ويصورهما في سياق بعيد عن الاحتمالات المنطقية، كيف ستصبح الشركة في حالة النجاح التام، وكيف ستصبح في حالة الفشل التام، هو أقرب إلى الأحلام والإرهاصات التي تجسد المستقبل لغرض الفهم، ثم يعود النقاش إلى الحالة الأكثر منطقية وفق الاحتمالات المدروسة. حينها يصبح اتخاذ القرار أسهل لأن فهم أبعاد المسألة كان أيسر.
بعد تقييم الاحتياج إلى المبالغة ينبغي أن نسأل أنفسنا، أي شكل من أشكال المبالغة نستخدم؟ والإجابة تعتمد هنا على طبيعة المعنى المنشود وهدفه. التحفيز والتأييد على سبيل المثال قد يتطلبان درجة من المبالغة المباشرة والصريحة، مثل مدير يقول لموظفيه "أبدعتم، فريق خارق، لا أعرف كيف كان سيكتمل المشروع من دونكم" ولا يخفى أن المدير وربما الموظفين كذلك يعرفون بأنهم ليسوا خارقين وأن عملهم تشوبه عديد من النواقص. وعلى جانب آخر، توضيح الآثار المستقبلية المحتملة لصانع القرار يتطلب رسم سيناريوهات متعددة تظهر كأنها مدروسة بعناية وتأخذ كل الاحتمالات، إلا أن معظمها في الحقيقة مجرد مبالغة ليشعر صانع القرار بالارتياح والسيطرة ويقلل من إحساس عدم التيقن لديه، ما يجعله أكثر شجاعة على اتخاذ القرار. أما حين نشرح التسبيب وعلاقات الأشياء فمن الوارد تشبيه العلاقة المستهدفة بعلاقة أخرى معلومة عند الجميع، فجودة عملية التوظيف التي تؤثر في أداء المصنع تشبه أهمية جودة الوقود الذي يمكن السيارة من العمل، إذا تدنت ضعف الأداء وإذا تدنت أكثر قد تتوقف السيارة عن العمل (وكذلك المصنع). تعد هذه التشبيهات من أبواب المبالغة لأن المقاربة لا يمكن أن تكون دقيقة بأي حال من الأحوال.
والسؤال الأخير والأهم هو: هل يجب أن نحذر من المبالغة؟ أو: إلى أي أحد ستخرجنا المبالغة عن الموضوعية المنشودة والمناسبة لسياق الحوار؟ هل تتجاوز اللباقة والأدب؟ هل ستصنع دفاعا أكثر من أن تصنع فهما؟ هل تتقبلها بيئة وثقافة المنشأة التي نعمل بها؟ إجابة هذه الأسئلة ستقودنا إلى اختيار الظروف المناسبة لاستخدام فن المبالغة وتشكل أهم المعايير التي تمكننا من استخدام هذه الأداة التواصلية بشكل فعال، لكي تمنحنا القدرة على التأثير وصنع النتائج.