صراع الصين مع الديموغرافيا
فقدت الصين لقبها كأكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم، لكن لا يزال عدد سكانها البالغ نحو 1.4 مليار نسمة يشكل ضعف سكان قارة أوروبا بكاملها، بل إن عدد سكان الصين أكبر من عدد سكان أوروبا والأمريكتين مجتمعة. هذا العدد الهائل يمنحها قوة إنتاجية ويجعلها سوقا هائلة، اتضح تأثيرها أخيرا في مبيعات "أبل" عندما حظرت الصين استخدام هواتف أبل في الإدارات الحكومية.
بناء على تقديرات الأمم المتحدة، من المتوقع أن ينخفض عدد سكان الصين من 1.4 مليار نسمة في 2022 إلى نحو 1.3 مليار بحلول 2050. وإن استمرت المؤشرات الديموغرافية، خاصة معدلات الإنجاب على نمطها المنخفض الذي لا يتجاوز 1.2 طفل، مولود لكل امرأة في سن الإنجاب، وهو أقل من مستوى الإحلال البالغ 2.1 طفل، فإن التوقعات للصين مفزعة، إذ من المتوقع أن ينكمش عدد سكانها إلى أقل من 800 مليون نسمة في نهاية هذا القرن الميلادي.
لا شك أن ثقافة الإنجاب في الصين زرعتها السياسات السكانية السابقة، التي ما لبثت أن تغيرت نتيجة تأثير التحولات السكانية وغيرها في التركيبة السكانية من حيث النوع، أي تفضيل المواليد الذكور، ففي 2016 قامت الصين بتعديل سياسة الطفل الواحد المطبقة في 1980، ليسمح بطفلين، لكن الانخفاض الحاد في معدلات الخصوبة أجبرها على تعديلها بعد ستة أعوام فقط إلى ثلاثة أطفال في 2021. لكن تجارب بعض دول العالم، مثل اليابان وكوريا الجنوبية ليست فاعلة ومؤثرة في عكس اتجاه الانخفاض المستمر في معدلات الخصوبة، حتى مع الحوافز مثل الإعانات وإجازات الأمومة ودعم رعاية الأطفال، حتى إجازة الأبوة السخية.
من المثير أن بعض الدراسات يعزو الانخفاض الكبير في الخصوبة في الصين بالدرجة الأولى، إلى مخاوف النساء الاقتصادية بسبب ارتفاع تكلفة تربية الطفل في الصين، ما جعل النساء لا يرغبن في إنجاب مزيد من الأطفال أو يتأخرن في الزواج وبدء الإنجاب، وهذا لا يعني عدم تأثير سياسة الطفل الواحد في المشهد الديموغرافي في الصين، إذ تسجل الصين أعلى نسب النوع عند الميلاد، أي ارتفاع كبير في المواليد الذكور مقارنة بالإناث نتيجة انتقاء النوع، ما نتج عنه زيادة في عدد الذكور، إلى جانب ارتفاع معدلات الإجهاض.
نتيجة لانخفاض معدلات الخصوبة بشكل حاد، أخذت معدلات شيخوخة السكان في الارتفاع السريع، فمن المتوقع أن تصل نسبة كبار السن إلى أكثر من ثلث السكان بحلول منتصف القرن الحالي، ما ينعكس على ارتفاع نسب الإعالة بسبب انخفاض نسبة القوة العاملة، وهذا ينعكس على تقلص الطلب على المساكن، إلى جانب الضغط على نظم التقاعد والضمان الاجتماعي. وبشكل عام سيؤدي ذلك إلى ارتفاع تكلفة العمالة، ومن ثم زيادة أسعار السلع، وبالتالي انخفاض منافستها في الأسواق العالمية.
من جهة أخرى، يعاب على الصين استمرار الهجرة السالبة، أي أن الهجرة المغادرة أكبر من الهجرة الوافدة، لكني أعتقد أن هذه الهجرة منذ سبعينيات القرن الميلادي الماضي إلى الوقت الحاضر تمنح الصين قوة ناعمة في مختلف دول العالم، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة. تجدر الإشارة إلى أن الصين ليست استثناء في مجال انخفاض معدلات الخصوبة وارتفاع الشيخوخة، بل إن كثيرا من الدول في أوروبا يعاني انكماش السكان عموما، والقوى العاملة خصوصا، مع ارتفاع كبير في نسب الشيخوخة. تجدر الإشارة إلى أن ميل معدلات الخصوبة للانخفاض ليست ظاهرة صينية، بل عالمية يشهدها جميع دول العالم، بما فيها الدول العربية والمملكة.
أخيرا، على الرغم من هذه التحديات الديموغرافية، إلا أن الصين استطاعت تحسين جودة حياة السكان والعمر المتوقع بدرجة ملحوظة، وعلاوة على ذلك تبقى الصين قوة صاعدة في مجالات التقنية، والصناعة، يحسب لها ألف حساب، وما تشهده قمة مجموعة العشرين إلا دليلا على مكانتها المتنامية وصراعها على النفوذ مع القوى التقليدية في العالم.