Author

قواعد عثمان التجارية

|

تشير المصادر التاريخية إلى اتسام عهد خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بالرخاء الاقتصادي والرشادة في إدارة وتوزيع أموال الدولة. فقد نمت الإيرادات بقوة في عهده وازدادت وتنوعت مصادرها، مع حرص على الرفق بالرعية وتجنب التشدد والصرامة في جمعها. ووجهت تلك الإيرادات لمنفعة المجتمع حسب التعاليم الشرعية، وزيدت في عهده التحويلات وأعمال الخير إلى عامة الناس ومحتاجيهم، وخصصت موارد للعاملين في الدولة وارتفعت مشاريع الإنفاق على المشاريع، كتوسعة الحرمين وإنشاء ميناء جدة. وقد يعود جزء من نجاح السياسة الاقتصادية في عهده، إلى خلفيته التجارية ومعرفته بالشؤون المالية.
تذكر المصادر التاريخية أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- هاجر إلى المدينة وليس معه إلا سيفه، لكنه غدا من أغنى أغنياء الدولة الإسلامية في بضعة أعوام.
ولخص -رضي الله عنه- قواعد نجاحات أعماله التجارية في خمسة أشياء، هي: إنه كان يعالج وينمي ولا يزدري ربحا ولا يشتري شيخا ويجعل الرأس رأسين.
ربما تؤسس عوامل نجاحه التجاري الذي ذكرها أهم قواعد التجارة والمال عبر التاريخ. فالمعالجة تقتضي مباشرة الأعمال ومزاولتها، والتعامل والمظهر الحسن، واكتشاف الأخطاء، ووضع الحلول، والتعرف على المخاطر، وإيجاد أفضل السبل لمواجهتها. والمعالجة في التجارة تعني أيضا الإصلاح وحل قضايا التجارة بحنكة ودراية، ما يوجب ضرورة اكتساب الخبرات، وتعلم المهارات التجارية والمالية. والمعالجة تعني أيضا التطوير، وزيادة القيمة المضافة. وكانت التجارة تتركز في ذلك الزمان في الأغذية، والمنسوجات والملابس، والمواشي، والعطور، والمعادن. ويمكن زيادة القيمة المضافة في المواد المبيعة إما بتنقيتها وتنظيفها وتطهيرها من الشوائب، أو ترتيبها، أو تحويلها، أو تغليفها، أو معالجة عيوبها، أو إعادة تصنيفها.
عموما، فإن المعالجة تعني زيادة القيمة المضافة، وخفض التكاليف، وتلافي الخسائر قدر الإمكان، وهذه من الأسس الحديثة للأعمال.
القاعدة الثانية التي كان يتبعها -رضي الله عنه- كانت التنمية، وهي الاستمرار في زيادة رأس المال. وهذا يقتضي إعادة استثمار معظم الإيرادات والأرباح ورفع معدلات نمو الأصول. ويميل كثير من الناس قديما وحديثا إلى زيادة الاستهلاك أو الاكتناز عند تحقيق الأرباح ما يخفض معدلات نمو رأس المال. وأثبتت التجارب الفردية والجماعية عبر التاريخ أن الاستثمار وزيادة نسبه ينميان ثروات الأفراد والأمم. فالدول التي ترتفع فيها معدلات الاستثمار تنمو بسرعة وترتفع معدلات دخول شعوبها وتسري الحال على الأفراد والشركات أيضا.
أما القاعدة الثالثة، فهي عدم ازدراء الربح، فمهما كان الربح قليلا، فإن حصوله بسرعة يعظم حجمه. ويعمي الجشع في كثير من الأحيان بعض التجار والمؤسسات، ما يقلص أحجام مبيعاتهم، كما قد يعرض لمخاطر التلف والعطب والكساد. من جانب آخر تجذب القناعة بالربح اليسير الزبائن، وتكتسب رضاهم، وترفع ثقتهم بالتاجر أو المؤسسة المروجة للسلعة أو الخدمة، ما يمنحها مزيدا من ولاء المستهلكين ويرفع إمكانية عودتهم للشراء مرات أخرى. وتأتي السمعة الحسنة، وثقة العملاء، وحسن المعاملة على رأس أولية الشركات الناجحة. إن الحصول على ربح مهما كان يسيرا أفضل كثيرا من خسارة زبون.
القاعدة الرابعة هي عدم شراء شيخ. والشيخ قد تعني كبيرا في العمر أو قديما أو عدم رائج.
وهذه قاعدة مهمة للنجاح التجاري، إذ تجنب التركيز على القطاعات والبضائع والخدمات المتقادمة أو التي يقل الإقدام على اقتنائها أو استهلاكها. ولهذا فعند اختيار قطاعات الاستثمار الأولى اختيار القطاعات التي يرجح تزايد استهلاكها، وارتفاع قيمها ونموها مع مرور الوقت. فمهما كانت الشركة أو التاجر ماهرا في أداء أعماله فإن القطاع أو المنتج المختار هو الذي يحدد بشكل كبير فرص النجاح والنمو وتحقيق الثروة. وكما يقول أحد كبار المستثمرين، عندما تستثمر في شركة فعليك النظر إلى فرص توسع قطاعها الإنتاجي ووجودها لعشرة أعوام مقبلة، فكلما مال قطاعها الإنتاجي للنمو كانت فرص نجاحها وزيادة أرباحها أكبر.
أما القاعدة الخامسة، فهي جعل الرأس رأسين، وهي عبارة أخرى لتنويع الاستثمارات. فمن خلال تنويع الاستثمارات يمكن خفض المخاطر بدرجة كبيرة. فوضع الاستثمار في قطاع أو منتج واحد محدد يعرضه بدرجة أكبر للضياع أو الخسارة عند تردي سوق السلعة أو الخدمة أو المنتج. كما قد يساعد تنويع الأنشطة على استغلال الموارد وتنشيط الأعمال على مدار الوقت. ويعد تنويع الاستثمارات والمبيعات من الأسس الحديثة لخفض المخاطر، خصوصا لأصحاب الثروات حتى للدول. لهذا نجد الدول "حتى الأفراد" ذات المصدر الوحيد أو الذي يشكل معظم إيراداتها عرضة لتقلبات الأسواق والظروف الاقتصادية.
تظهر القواعد التي طبقها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في تجارته، أن الأسس العامة للنجاح التجاري ظلت شبه ثابتة عبر التاريخ. أما التطورات الهائلة التي حدثت عبر الزمن، فتركزت في أساليب وأدوات وتقنيات تطبيق هذه الأسس. كما تظهر هذه القواعد وجود هامات عملاقة في المجالات كافة في تاريخنا القديم والحديث. لهذا ترتفع أهمية دراسة تجارب الشخصيات البارزة في المجالات كافة بما فيها المجالات الاقتصادية، وألا نستهين بتجاربهم وإرشاداتهم، ونتجنب التركيز فقط على مجالات ونواح محددة. وسيساعد التعرف على تجارب الشخصيات التاريخية ونصائحهم في المجالات التي برزوا فيها وخاضوها والتعمق في دراسة أساليبها وفنونها على تطوير أنماط تفكيرنا وحياتنا وأعمالنا وإدارتنا واكتشاف حلول لبعض الإشكالات التي نواجهها.

إنشرها