مركب الحياة
في أواخر القرن الـ19 انتشر مرض غريب بين البحارة يصيبهم بالوهن في البداية، ثم يفقدون القدرة على المشي ويصابون بالشلل التام، وكثير منهم ينتهي به الحال إلى الوفاة. وتسبب ذلك في خسائر كبيرة لشركة شرق الهند الهولندية، لذلك قامت الحكومة الهولندية بإرسال البعثات الطبية متعددة التخصصات للبحث عن سبب هذا المرض بعد أن فشلت كل النظريات التي تحاول عزو سببه إلى الجراثيم، طبقا لاكتشاف باستير لها في ذلك الوقت، حيث ظن العلماء أن جميع الأمراض ناجمة عن هذه الكائنات الممرضة، لكن أطباء الشركة عجزوا عن عزل أي جرثومة وراء المرض الذي عرف باسم "البري بري".
بالمصادفة لاحظ الطبيب کریستیان آیکمان، أحد أفراد البعثة الطبية، أثناء تجواله في أحد سجون المدينة، أن الكتاكيت المرباة في ذلك السجن مصابة بأعراض مرض البري بري، في حين أن الكتاكيت التي تربى خارجه سليمة، ودفعه فضوله العلمي لدراسة هذه الظاهرة على سرب الدجاج الموبوء، لكن المفاجأة أن المرض اختفى منه تماما. تعجب آیكمان من هذا التغيير الصادم، إلى أن قابل الطباخ الذي أخبره أنه كان يغذي الكتاكيت بالرز الأبيض منزوع القشرة الداخلية والخارجية والمستعمل أساسا لتغذية البشر، وذلك قبل حدوث الوباء مباشرة وأثنائه. وعندما وبخه مديرو الشركة لإطعامه الدجاج الرز المحسن "الأبيض" الباهظ الثمن، رجع الطباخ إلى الطعام الأصلي للدجاج والمكون من الرز البني!
من هنا خطر في باله أن هناك مادة في قشور الأرز تشفي من المرض، ولكي يبرهن على صحة كلامه أحضر مجموعة من الكتاكيت وقسمها إلى ثلاث مجموعات، أطعم الأولى أرزا مصقولا، والثانية أرزا منزوع القشرة الخارجية، أما المجموعة الأخيرة فأطعمها أرزا كاملا بقشره، وظل يراقبها لأيام، ووجد أن المجموعة الأولى هي الوحيدة التي أصيب أفرادها بالمرض، وليؤكد نظريته قام بإطعامها أرزا كاملا فشفيت تماما من المرض!
وبعد سبعة أعوام أعاد العالم البولندي كازيمير فانك، تجارب آيكمان، وحاول استخلاص المادة الموجودة في قشور القمح، لكنه لم يستطع فصلها منفردة، لذا وصفها بأنها عبارة عن خليط من البروتينات تسمى الأمينات الضرورية لصحة الكائنات الحية. وفي 1912 ظهر لأول مرة مصطلح "فيتامين" الذي صاغه العالم فانك من كلمتين "فيتا" التي تعني الحياة باللغة اللاتينية، و"امين" وهو عبارة عن مجموعة من المركبات الكيميائية التي تحتوي على النيتروجين.
من هنا آمن الأطباء أن هناك مسببات للأمراض غير الجراثيم، فمرض الأسقربوط والبري بري والكساح والبيلاغرا ناتجة عن نقص محدد في الفيتامينات!