اللغة العربية وصناعة المعرفة

التأكيد على اللغة الأم واستمرار الطرق على الموضوع المهم هذا لم يأت من فراغ. منطلقه كان مقررا من مقررات مؤتمر القمة العربية الـ32، الذي انعقد في جدة في 19 من أيار (مايو) الماضي، في المملكة.
ورغم قصر هذا المؤتمر، لو أخذنا فترة انعقاده في الحسبان ـ حيث كانت مدته نحو يوم أو نيف ـ فإنه تميز عن باقي القمم العربية بتأكيده على دعم اللغة الأم ـ لسان الضاد ـ وتعزيز دورها من ناحية تدريسها لغير الناطقين بها أو التشديد على مكانتها في تثبيت أركان الهوية الوطنية والثقافية. وأنا أتحدث عن لسان الضاد، فإن ما أقوله يندرج في خانة أهمية اللغة الأم لكل الشعوب والأمم والدول.
لقد صار جليا، بعد دراسات معمقة، أن للغة الأم دورا كبيرا في صناعة المعرفة وتشكيل الهوية الوطنية، إضافة إلى تكوين شخصية الفرد من حيث التفكير واستقلالية القرار والولوج في عالم صنع المعرفة الوطنية والتمكن من دخول معترك الحياة بجدية وشجاعة في الطريق صوب النجاح.
وقد يتساءل قارئ: كيف تصنع اللغة المعرفة؟
الجواب ليس عسيرا أبدا. أولا، لأننا لن نصل إلى المعرفة إلا من خلال اللغة. ثانيا، أن اللغة هي التي تنقل لنا المعرفة. ثالثا، واستنادا إلى النقطة الأولى والثانية، ليست هناك معرفة دون لغة. رابعا، واستنادا إلى النقطة الأولى والثانية، اللغة هي الوسيلة ربما الوحيدة لنقل المعرفة وحفظها. خامسا، وعليه، اللغة هي المعرفة والمعرفة هي اللغة. بعد أن وضعنا إطارا نظريا مبسطا، مع بعض الفرضيات، جاء دور التطبيق وتقديم الأدلة والبراهين.
لنرجع إلى التاريخ وإلى القرن التاسع خصيصا. هذا القرن شهد حركة ترجمة هائلة إلى اللغة العربية، نقل فيها العرب المعرفة الإنسانية بشتى مضاربها إلى لسانهم.
قبل هذا القرن، لم تكن العربية أداة لنقل وحفظ وتدريس وتعليم المعرفة. إن أراد امرؤ الوصول إلى المعرفة، كان لزاما عليه تملك ناصية اللغة اليونانية أو الفارسية، أو الهندية، أو السريانية.
وقبل هذا القرن "أي التاسع"، لم ينتج العرب المعرفة بلغتهم أبدا، وإن حدث وظهر في صفوفهم نابغة له ملكة صنع المعرفة "اكتشاف علمي مثلا"، لما كان في إمكانه نقل ذلك إلا إن كان ملما باليونانية أو الفارسية أو الهندية أو السريانية.
وقبل هذا القرن أيضا، لم تكن اللغة الأم العربية من السعة في مكان كي تمكن النابغة الذي ظهر في صفوفهم من أن ينقل لهم المعرفة بلغتهم.
ولكن كل شيء تغير بعد القرن التاسع، أي بعد أن نقل العرب المعارف إلى لغتهم الأم، التي صارت تلعب دور اليونانية أو الفارسية أو الهندية أو السريانية في صنع المعرفة.
حركة الترجمة هذه مكنت العرب من صنع المعرفة بأنفسهم وبلغتهم وصار في إمكان أي نابغة بين ظهرانيهم صنع المعرفة بلغته ونشرها على أوسع نطاق ضمن الإمكانات المتاحة في عصره.
وبرز علماء في شتى مضامير المعرفة الإنسانية ليس على المستوى الوطني في حينه بل على مستوى العالم.
هناك أسماء لامعة لم تفقد بريقها حتى يومنا هذا من أمثال محمد بن موسى الخوارزمي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، والحسن بن الهيثم، وابن خلدون، وأبو يوسف الكندي، وأبو بكر الرازي، وجابر بن حيان وغيرهم كثيرون.
هذه الأسماء صارت جزءا ليس من الذاكرة العربية وحسب بل من الذاكرة الإنسانية لأن اللغة الأم هي التي مكنتهم "من خلال الترجمة" من صناعة وتكوين المعرفة الإنسانية في حينه.
ودور الأسماء اللامعة هذه التي صنعت المعرفة الإنسانية بلغتها الأم في عصرها يوازي دور الأسماء اللامعة في عصرنا هذا والتي صنعت المعرفة الإنسانية التي أسهمت في صنع المدنية الحديثة من أمثال جورج مندل، وإسكندر فليمنغ، وإسحاق نيوتن، وجيمس واتسون وماري كوري وغيرهم من الذين ترد أسماؤهم في الكتب المدرسية التي يقرأها العرب اليوم.
هل للعرب علماء يشار إليهم بالبنان بقدر تعلق الأمر بصنع المعرفة في العصر الحديث؟ نعم هناك كثيرون، ولكنهم صنعوا المعرفة بلغة غير اللغة الأم، ولأنهم فعلوا ذلك صارت المعرفة التي توصلوا إليها ذات فائدة مباشرة للناطقين باللغة التي كتبوا فيها، أما فائدتها لأهلهم الناطقين بلغتهم الأم فتكاد تكون معدومة.
ربما أشهر عالم عربي اليوم هو الدكتور أحمد زويل، العالم العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل. ولكن كل المعرفة التي صنعها هذا العالم الجليل هي بلغة غير لغته الأم، ولهذا فائدتها هي أولا وأخيرا للناطقين باللغة التي كتب فيها.
آمل أن يعيد العرب النظر في دور اللغة الأم كي يجعلوا من لسان الضاد صانعا للمعرفة، وإن لم يحدث هذا أخشى أن أي تنمية في أي مضمار لن تأتي أكلها.
ولنا عودة إلى الموضوع المهم هذا في المقبل من الأسابيع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي