Author

فجوة التوظيف بتداعيات التضخم

|

يبدو أن القلق مستمر بشأن أثر الأزمات الاقتصادية والسياسية المتعددة والمتداخلة إضافة إلى الصراعات التجارية بين عديد من الدول خاصة الكبرى التي تهدد انتعاش سوق العمل في جميع أنحاء العالم، حيث نلاحظ أن التفاوت أصبح سيد الموقف لواقع ومؤشرات سوق العمل الدولية. ووفق النسخة العاشرة من تقرير مرصد منظمة العمل الدولية، لم تكن الرؤية واضحة تماما حتى منتصف 2022، عندما أعد التقرير العاشر للمرصد، لكن الخروج غير المتوازي من الأزمة الصحية كان ينذر بمرحلة من عدم الاتزان وعدم التساوي في توزيع النمو الاقتصادي العالمي، وكان صدى ذلك واضحا في تقرير المرصد في حينه الذي جاء مترددا في تفسير حالة سوق العمل الدولية وهو يقر بأن آفاق سوق العمل غير مؤكدة إلى حد كبير، مع تزايد مخاطر تراجع النمو، وآثار ارتفاع التضخم، وتشديد السياسة النقدية، وزيادة أعباء الديون وتراجع ثقة المستهلك.
وفي السياق نفسه جاء تقرير آفاق سوق العمل الدولية بداية 2023 واضحا بشأن تأثير معدلات التضخم مع زيادة التفاوت بين الدول وانخفاض الطلب الكلي، ومؤكدا أن الأجور العالمية الحقيقية قد انخفضت بنسبة 0.9 في المائة في 2022 حتى بين عمال الخدمات ذوي الأجور المنخفضة في الاقتصادات المتقدمة. بيد أن الأمور الآن أكثر وضوحا مع اقتراب 2023 من منتصفه، فالأزمات التي كانت غير واضحة المعالم أصبحت الآن أكثر ضراوة مع ارتفاع مستويات الدين العالمي وتنامي ديون الدول الأقل نموا، وهذه النتيجة عززت التفاوت وعدم التساوي في النمو الاقتصادي وانعكست بوضوح في معدلات البطالة.
وأشار تقرير المنظمة الدولية إلى أن معدلات البطالة العالمية تتفاقم بين الدول ذات الدخل المرتفع وذات الدخل المنخفض، وقد توقع الإصدار الـ11 من "مرصد منظمة العمل الدولية حول قضايا عالم العمل"، أن ينخفض معدل البطالة العالمي دون مستويات ما قبل جائحة كورونا ليبلغ 191 مليونا هذا العام بمعدل 5.3 في المائة، فيما تختلف الدول ذات الدخل المنخفض في عملية التعافي عموما بينما من المتوقع أن يبلغ معدل البطالة في شمال إفريقيا 11.2 في المائة مقارنة بـ10.9 في المائة في 2019.
والجدير بالذكر هنا أن منظمة العمل الدولية تستخدم معدل البطالة لقياس عرض العمالة "الأشخاص" المتاحة والطلب المتاح عليها "الوظائف"، لكن المنظمة العالمية تعد هذا المقياس غير دقيق بما يكفي لذلك طورت مقياس تناقص استخدام العمالة labour underutilization ، الذي يسمى فجوة الوظائف، وهو مقياس أكثر دقة من معدل البطالة ذلك أنه يأخذ في الحسبان جميع الأشخاص الذين يرغبون في العمل، لكن ليست لديهم وظيفة ويدمج جميع الباحثين عن عمل أو غيرهم ممن سيعملون إذا استطاعوا. فالشخص العاطل وفقا لمقياس فجوة الوظائف هو غير العامل الذي ليس له وظيفة ولا حتى له عمل خاص، وهو يبحث عن ذلك، فالمسألة لم تعد عمالة متاحة بل قدرة الاقتصاد على إنتاج فرص العمل.
ووفقا لهذا المقياس فإن أرقام فجوة التوظيف تتصاعد في الدول منخفضة الدخل، حيث بلغت معدلاتها مستويات تنذر بالخطر عند 21.5 في المائة، وذلك في الوقت الذي بلغت النسبة في الدول متوسطة الدخل نحو 11 في المائة، وفي الدول مرتفعة الدخل 8.2 في المائة. وأن فجوة الوظائف أعلى بكثير بين النساء وتصل إلى 14.5 في المائة بينما نسبتها بين الرجال 9.8 في المائة.
هذه الأرقام توحي بعديد من الاستنتاجات، وهي توضح الفجوة الاقتصادية الهائلة بين الدول في العالم، فبينما معدلات البطالة تصل إلى 5.3 في المائة عند المقاييس العادية لها فهي تجاور 9 في المائة في الدول المتقدمة إذا تم قياس فجوة الوظائف، وهي قد تبين حالة من توافر القوى العاملة لكن أشكال الوظائف المتاحة لهم قد تغيرت بفضل التحولات التقنية العالمية، لكن هذا الاستنتاج مختلف إذا تمت قراءة رقم فجوة الوظائف في الدول منخفضة الدخل، فهناك المشكلة تظهر في عدم قدرة الاقتصاد على إنتاج وظائف كافية، والسبب يعود برمته إلى مشكلات الدين التي تمنع الدول من الاستثمار في الاقتصاد بما يحقق فرصا وظيفية كافية، وإذا استمرت الحالة الاقتصادية المتفاوتة بين الدول بهذا الشكل فإن منظمة العمل الدولية تحذر من أزمات كبيرة في المستقبل، سياسية واجتماعية، خاصة أن المنظمة تربط بين فجوات الوظائف ومفهوم الحماية الاجتماعية، حيث يقول المدير العام لمنظمة العمل الدولية، إن زيادة الاستثمار في الحماية الاجتماعية ستحقق فوائد اقتصادية واجتماعية وتوظيفية كبيرة وتضيق فجوة التوظيف العالمية.
بينما تعد الدراسات المختلفة أن الاستثمارات في البنية التحتية المادية والاجتماعية في القطاعات الرئيسة ضرورية لتحسين ظروف العمل وتعزيز استمرارية الأعمال. وتقدر منظمة العمل الدولية أن زيادة الإنفاق لتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة بشأن الصحة من شأنه أن يولد 173 مليون وظيفة، كما أن 85 في المائة من العاملين الرئيسين يعملون في القطاع الخاص وترى المنظمة الدولية أن ضمان حصول المؤسسات على الموارد والقدرات الكافية هو شرط أساس للحصول على عمل لائق للعاملين الرئيسين.

إنشرها