بعد توقف محركه .. هل تتحول اهتزازات الاقتصاد الإيطالي إلى زلزال وسقوط كبير؟

بعد توقف محركه .. هل تتحول اهتزازات الاقتصاد الإيطالي إلى زلزال وسقوط كبير؟

لا يبدو أن هناك اتفاقا قاطعا بشأن عدد الحكومات التي حكمت إيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن. فموقع يورو نيوز المختص بالأخبار والشؤون الأوروبية يقدر عدد الحكومات التي تناوبت على حكم إيطاليا منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية حتى اليوم بـ68 حكومة.
بينما تقدرها مجموعة الإيكونوميست التي تصدر مجلة الإيكونوميست الشهيرة بـ69 حكومة، أما موقع سي إن بي سي الإخباري فيقدرها بـ70 حكومة.
هذا الاختلاف بشأن عدد الحكومات التي وصلت إلى سدة السلطة في روما، لا ينفي وجود اتفاق آخر بين الخبراء بشأن الوضع الاقتصادي الإيطالي، فهناك ما يشبه الإجماع بأن المعضلة الاقتصادية الإيطالية معضلة عميقة ومعقدة وضاربة الجذور في الاقتصاد والمجتمع والدولة الإيطالية، بحيث باتت إيطاليا بالنسبة لكثير من الخبراء بمنزلة "الدولة التي نسيت كيف يمكنها النمو اقتصاديا".
بالطبع يحق للإيطاليين الافتخار بماضيهم العريق، وإمبراطوريتهم الرومانية التي سادت لقرون، وإبداعاتهم في مجال الأدب والفنون والمعرفة والفلك والرياضيات. فجاليلو إيطالي وكذلك ليونارد دافنشي ومايكل أنجلو ومكيافيلي وبالطبع دانتي وغيرهم كثر من علماء ومفكرين ورسامين ونحاتين.
ويحق بالطبع للإيطاليين التباهي بعظمة فن الطهي لديهم، وبسحر متاحفهم، وبجلال آثارهم، وبعظمة لمستهم التي قدموها للحضارة الإنسانية. لكن إيطاليا اليوم تعاني من وضع اقتصادي لا يسر. في بعض الأحيان تنتفض وتزيح التراب عن جسدها الاقتصادي المرهق والمنهك، لكن سريعا ما يخفت الضوء ويعود الخمول.
تقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة كرستين وليام أستاذة التاريخ الاقتصادي في جامعة بروملي: "أدت الزيادة الإنتاجية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى تحول إيطاليا من دولة زراعية فقيرة -إلى حد كبير- إلى واحدة من القوى الصناعية الرائدة في العالم، لكن بحلول أوائل التسعينيات من القرن الماضي توقف المحرك الإيطالي، وأصبحت إيطاليا أقل كفاءة بشكل مطرد في مجال استثمار رأس المال وتطوير العمالة، ونتيجة لذلك كان النمو الاقتصادي بطيء بشكل مؤلم منذ ذلك الحين حتى الآن".
ولكن لماذا تعد الأزمة الاقتصادية في إيطاليا مقلقة للجميع؟ ربما يكون السبب الرئيس أن الاقتصاد الإيطالي من الكبر بحيث يعني انهياره وجود تهديد مصيري بالنسبة للاتحاد الأوروبي ككل. فإيطاليا ليست اليونان وسيكون صعبا أو مستحيلا على أوروبا أن تساندها وتساعدها على النهوض، ربما يمكن مساندتها لتطفو، ولكن ليس أكثر من ذلك.
وانهيار الاقتصاد الإيطالي -وهو الثالث في الترتيب بعد ألمانيا وفرنسا أوروبيا- لا يعني انهيار الاتحاد الأوروبي فحسب، وإنما يعني أزمة اقتصادية في مجمل القارة تستمر لأعوام وربما عقود، وتخرجها -بلا شك- من المنافسة الراهنة بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي لقيادة الاقتصاد الدولي.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" ماثيو بيري الباحث الاقتصادي في الشأن الأوروبي: "جذور المشكلة الاقتصادية الإيطالية تكمن في مزيج قاتل من الديون المفرطة والتركيبة السكانية المختلة وعدم الاستقرار السياسي. بالنسبة للديون فإيطاليا واحدة من أكثر البلدان المثقلة بالديون في أوروبا، حيث يبلغ الدين العام والخاص أكثر من 330 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، والدراسات الحديثة تؤكد أنه بمجرد أن يتجاوز إجمالي الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 300 في المائة يبدأ النمو الاقتصادي في الانخفاض، ويبدأ أيضا مستوى معيشة السكان في التراجع، وبالفعل تجاوزت إيطاليا عقبة الدين المفرطة في عام 2010 ومنذ ذلك التاريخ بدأ نموها في الانخفاض".
ويضيف: "لا تعاني إيطاليا أزمة ديون لا تستطيع حلها فحسب، فالاقتصاد يحتاج أشخاص تراوح أعمارهم بين 15 و64 عاما، لأن ذلك هو سن العمل. منذ عام 2012 انقلب النمو السكاني من إيجابي إلى سلبي وبدأ عدد الأشخاص فوق 65 في التزايد، والآن باتت إيطاليا تمتلك أعلى نسبة من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما في جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ومع انخفاض معدلات النمو الاقتصادي يتفادى الشباب تكوين أسرة، والنتيجة انخفاض في معدلات المواليد وخلل مستقبلي في قوة العمل، ومن ثم لن تتاح لإيطاليا عائدات ضريبية مستقبلية لسداد ديونها".
ويعتقد الخبراء أن شيخوخة المواطنين في إيطاليا إلى جانب معدلات المواليد المنخفضة تؤدي إلى تقلص عدد سكان البلاد، حيث يتوقع أن يتراجع عدد السكان من 54.2 مليون نسمة بحلول عام 2050 إلى 47.7 مليون بحلول عام 2070، ودون نجاح إيطاليا في عكس هذا الاتجاه فإن قدرتها على تعزيز نموها الاقتصادي مستقبلا تبدو بعيدة المنال.
وحول أسباب تراجع أعداد المواليد في إيطاليا صرح ماسيميليانو فاليري المدير العام للإحصاء في إيطاليا لوسائل الإعلام بأن السبب يعود إلى "امتلاك إيطاليا أدنى معدل مشاركة نسائية في العمل في أوروبا، إذ تبلغ تلك النسبة 57 في المائة مقابل 75 في المائة في ألمانيا و81 في السويد".
وقد يبدو هذا التفسير غريبا بعض الشيء، إذ يتوقع أن يؤدي انخفاض نسبة النساء في قوة العمل إلى زيادة المواليد نظرا لتفرغهن والبقاء في المنزل، إلا أن المدير العام للإحصاء في إيطاليا أوضح قائلا: "لماذا أذكر ذلك؟ حسنا، لأن عديدا من الدراسات أثبتت أنه إذا كانت المرأة قادرة على العمل فستنجب مزيدا من الأطفال". وأضاف: "عدم القدرة على العمل يجعل النساء أقل أمانا من الناحية المالية ولا يشجعهن على تكوين أسرة".
وبالفعل فقد أنشأت الحكومة الإيطالية الجديدة وزارة الأسرة كوسيلة لمعالجة تلك المشكلة، مع هذا فإن الدكتور مايسن كارتر الخبير في علم السكان في الأمم المتحدة يرى أن ذلك لا يمثل حلا جذريا للمشكلة الإيطالية، وأن هناك حاجة ماسة إلى إجراءات أخرى مساندة.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أن بقية أوروبا ليست بعيدة عن إيطاليا من حيث المنحدر السكاني، لكن المشكلة الإيطالية هي الأكبر في أوروبا، وعادة يستغرق الأمر عدة أجيال لعكس الاتجاه السلبي للنمو السكاني، حيث إن العدد الإجمالي للنساء اللواتي يتمتعن بالقدرة على الإنجاب قد قل من نفسه مع مرور الوقت، و"علينا أن ندرك أن معدلات الخصوبة المنخفضة ليست سوى جزء من المشكلة، وهذا يقودنا إلى أهمية الاستفادة من الهجرة كاحتمال آخر عند مواجهة هذه المشكلة".
المشكلة السكانية وتعقيدات قضية الديون الإيطالية وضخامتها، يجعل البنك المركزي الأوروبي على علم بأن إيطاليا لا تستطيع سداد ما عليها من التزامات مالية، ومن ثم عليه مواصلة صياغة أدوات سياسية لمنع السندات الإيطالية من الانهيار، وقد ترجم المصرف الأوروبي هذا الإدراك في استعداده لتبني سياسات مالية متناقضة ليتفادى انهيار الاقتصاد الإيطالي.
وارتفاع التضخم في بلدان منطقة اليورو يحتم على المركزي الأوروبي رفع أسعار الفائدة، وبالطبع يضغط هذا على إيطاليا ويزيد من أقساط فوائد الدين واجبة السداد، ويجعل تكلفة الاستدانة أعلى، لكن في الوقت ذاته أقر المصرف الأوروبي منذ بعض الوقت أداة سياسية جديدة تسمح بشراء السندات الإيطالية إذا ما اتجهت نحو الانهيار، وهذا يعني عمليا أن البنك المركزي بات لديه مزيج غريب من سياسة رفع الفائدة والتيسير الكمي للسندات السيادية الإيطالية في ذات الوقت.
مع هذا فإن بعض الخبراء يعتقدون أن الوقت لم ينفد أمام إيطاليا لتفادى السقوط الكبير، لكن هناك شروطا للنجاة، ففي العام الماضي نمت إيطاليا بشكل أسرع من كل من فرنسا وألمانيا، وكان ذلك يعود في جزء منه إلى الآثار الإيجابية للأموال التي حصلت عليها من صندوق التعافي التابع للاتحاد الأوروبي كمساعدة لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، وكانت تلك المساعدات مرتبطة بإصلاحات داعمة للنمو مقابل كل شريحة مالية تحصل عليها إيطاليا.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور أوين هنري أستاذ الاقتصاد الدولي في مدرسة لندن للتجارة: "لا يزال أداء إيطاليا على المدى الطويل مؤسفا، فنمو الناتج المحلي للفرد يقترب من الصفر منذ عام 2000 وهو الأسوأ في نادي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للبلدان الغنية، ويمكن أن تواجه ركودا اقتصاديا هذا العام، وللخروج من الألم الاقتصادية لا بد من عملية إصلاح اقتصادي شامل تعزز المنافسة وبالتالي تعزز زيادة الإنتاجية، وهذا يتطلب تغييرات تشريعية للتصدي للمؤسسات التي تقاوم الإصلاحات المؤيدة للنمو".
ويضيف: "أسواق العمل في إيطاليا تتسم بالجمود، وهناك حاجة إلى مزيد من تحريرها للحد من البطالة وزيادة مشاركة النساء في العمل، ورفع الحماية المقدمة لبعض الشركات الإيطالية، التي تحول دون المنافسة، كما أن إيطاليا في أمس الحاجة إلى تقليص فجوة التفاوت الإقليمي، فجنوب إيطاليا يمثل ثلث السكان وربع الاقتصاد، مع هذا فإنه تراجع خلال العقدين الماضيين سواء في مجال التعليم أو التوظيف".
باختصار تحتاج إيطاليا إلى إصلاحات جذرية تضمن لها تحقيق أداء اقتصادي أفضل، ودون تحسن الأداء الاقتصادي في إيطاليا، فإن الذي يبدو الآن اهتزاز اقتصادي من حين إلى آخر قد يتحول إلى زلزال يقود للانهيار التام، وأوروبا تعلم أن إيطاليا لن تذهب إلى الجحيم الاقتصادي بمفردها، إذ يمكن أن تأخذ معها بلدان القارة بأكملها.

الأكثر قراءة