Author

تجربة إسكان ميسر ناجحة

|

ترتفع تكاليف السكن في كثير من مدن العالم ما يضعف شرائح سكانية متعددة، ويضع الدول والمجتمعات أمام تحديات صعبة، مولدا أزمات سكن يتطلب التغلب عليها تخصيص موارد ضخمة. وتتفاقم أزمات السكن مع الارتفاع المتسارع في أسعار المساكن وتكاليف الإيجارات عبر فترة من الزمن بمعدلات تفوق نمو الأجور، ما يهدد أعدادا بشرية متزايدة بالدخول في دائرة الفقر العقاري. وهذا يتطلب وبلا شك تدخل السياسات العامة في دعم وتوفير السكن بدرجة أكثر فاعلية. وتتوافر تجارب دول عديدة في توفير المساكن ودعم الحصول عليها، بعضها عانى عيوبا حتى عاهات خفضت منافعها، لكن يتصف قليل منها بالنجاح الباهر.
ترفع الهجرات المتزايدة للمدن ونموها الحضري المستمر الضغوط على تكاليف السكن، ما يقلل قدرات شرائح واسعة من المجتمعات على تحمل التكاليف. وتتدخل الحكومات المحلية والوطنية ببناء ودعم السكن لتيسير الحصول عليه بتكاليف معقولة. ويرى كثيرون أن تجربة مدينة فيينا النمساوية من أنجح تجارب السكن الميسر في العالم. وتبنت المدينة السكن كحق من حقوق الإنسان الأساسية منذ فترة طويلة، لذلك تنشط في بناء المساكن الميسرة. وتمكن سياساتها قاطني المشاريع السكنية المستقبليين من المشاركة في تصميم واختيار مواصفات المشاريع. وتملك المدينة نصف المساكن الميسرة، بينما تشرف على النصف الآخر من خلال الإسكان التعاوني مع القطاع الخاص. وتمثل المساكن الميسرة أقل بقليل من نصف مساكن فيينا، ويتأهل ثلاثة أرباع السكان للحصول عليها، ويقطنها نحو 60 في المائة من سكان المدينة. بدأ بناء المساكن الميسرة منذ نحو 100 عام، وكان الهدف منها تحسين بيئة سكن العمال القادمين إلى المدينة للعمل والتي كانت بائسة تسببت وقتها في نشر الأوبئة.
يتميز السكن الميسر في فيينا عن كثير من نظرائه في العالم باحتفاظه بنوعيته وجودته العالية من خلال الصيانة المستمرة، وإعادة التأهيل. وكانت المدينة تقوم بإنشاء الوحدات السكنية الميسرة، لكنها عدلت سياستها قبل ثلاثة عقود وشرعت في تحفيز القطاع الخاص على إنشاء المساكن الميسرة، وذلك من خلال توفير أراض بأسعار مخفضة أو إيجار مدعوم، ومنح قروض ميسرة للمطورين، والسماح بتأجير أو تسويق 40 في المائة من الوحدات السكنية على أساس السوق الحرة. وتنشط حكومة "بلدية" المدينة في شراء الأراضي واستخدام مخزونها منها في بناء مشاريع المساكن الميسرة، وتأجيرها لشركات محدودة الربح. وتطرح المشاريع للمنافسة بناء على متطلبات ومواصفات محددة وليس على أساس أقل التكاليف، التي تتضمن قدرتها على الاستمرارية والملاءمة الاجتماعية والتصميم والبيئة. ونجحت المدينة في تجانس سكان المشاريع مع مجاوريها من السكان. وتتركز شروط الحصول على سكن مدعوم العيش في المدينة لمدة عامين، ومستوى دخل يؤهل ثلاثة أرباع السكان. وتضيف المدينة ما لا يقل عن أربعة آلاف وحدة سكنية كل عام ما حد من التزاحم للحصول على إحداها.
لا تقتصر أهلية الحصول على مساكن ميسرة على الشرائح السكانية الفقيرة أو منخفضة الدخل، وإنما تشمل معظم الشرائح السكانية متوسطة الدخل. ويستطيع مستأجرو المساكن البقاء في مساكنهم حتى لو ارتفعت دخولهم أو كبروا في أعمارهم، ما ساعد على استقرار مجتمعاتها. ولا تبنى مشاريع الإسكان الميسر في المدينة فقط على أساس كثافة استخدام الأراضي بحدود معقولة بين خمسة وسبعة أدوار، وإنما تستهدف ضمان نوعية جيدة للمشاريع السكنية تتوافر فيها المرافق والخدمات العامة والخاصة، ويسهل الوصول إليها باستخدام المواصلات العامة، ومواصفات بيئية جيدة وقريبة من المتنزهات الخضراء. وتنتشر مشاريع الإسكان العام عبر المدينة ويصعب التفريق بينها وبين تجمعات السكن الأخرى.
أسهمت مشاريع الإسكان العامة للمدينة في تحويل أغلبية سكانها إلى مستأجرين، حيث يقطن نحو ثلاثة أرباعهم بالإيجار. وحدت هذه المشاريع من تكاليف الإيجار إلى نحو ثلث مستويات مدن قريبة كباريس. وأسهمت جودة مشاريع الإسكان فيها، في أن تتمتع المدينة بمراكز متقدمة في مستويات وجودة المعيشة بين مدن العالم. إن نجاح الإسكان العام في فيينا لم يأت من خلال بناء المساكن الميسرة فقط، لكنه أتى أيضا من خلال الحرص على جودة السكن، وبناء مساكن جميلة للطبقة الوسطى، وتوفير الخدمات والمرافق العامة، والمزج بين شرائح الدخل المختلفة بحيث لم تتكون ما يسمى الجيتو أو الأحياء التي يتركز فيها الفقراء. إضافة إلى ذلك، ساعدت مشاريع الإسكان على الحد من تصاعد تكاليف السكن بوجه عام، والحد من مطالب رفع الأجور. في المقابل، فإن هذه المشاريع ليست بالمجان ما اضطر الحكومة المحلية إلى فرض ضرائب مختلفة ينتقدها بعض السكان.
إن من الصعب نسخ تجربة مدينة فيينا الناجحة حيث تختلف الدول في تنظيماتها الإدارية والتشريعية، والمجتمعات في نظراتها وعاداتها السكنية وماهية اختيار سكنها. فمشاريع المدينة قائمة على أساس بناء الشقق السكنية، بينما لا تفضل شرائح سكانية كثيرة لدينا الإقامة فيها لفترة طويلة من الزمن. لكن ارتفاع تكاليف الأراضي، خصوصا في المدن الكبيرة، سيجبر شرائح سكانية متزايدة على عدم الممانعة بالإقامة فيها إذا توافرت ضمنها خدمات معينة، أو كانت على حدود مناطق خضراء وقريبة من نقاط المواصلات الرئيسة. من جانب آخر، ستساعد دراسة التجربة النمساوية على صياغة بعض السياسات التي تركز على التعامل مع قضايا السكن على أساس محلي، وآليات المحافظة وتحسين المساكن، وآليات خفض التكاليف كسياسة توفير الأراضي بتكاليف مدعومة، ونشر مشاريع الإسكان عبر المدينة وعدم تركزها في مواقع قليلة، وتوزيع المساكن الميسرة على أساس الإيجار.

إنشرها