Author

إخفاق وتعثر وركود اقترب

|

الأسئلة كثيرة ومتنوعة وأيضا محيرة، التي تطرح على الساحة الاقتصادية حول مسار التضخم وآفاقه، ولا توجد لها الإجابات الشافية أو الحلول المقنعة التي تؤدي إلى نتائج إيجابية أملا في التخلص منه، وبالطبع كيفية كبح جماح هذا التضخم المزعج والحاد بكل أدواته وانفعالاته وردود أفعاله المتشعبة في كل الجوانب الاقتصادية والمالية والمرتطبة بأوضاع الأسواق العالمية، والعمل على رفع تأثيراته السلبية في المستهلك، وتخفيف ضغوطه على الموازنات العامة، بل "استثماره" سياسيا من قبل الأحزاب السياسية المتصارعة للوصول إلى الحكم في هذا البلد أو ذاك.
فالموجة التضخمية الراهنة طال أمدها بالفعل، وسط توقعات لم تتحقق حتى الآن في السيطرة عليها، خصوصا بعد العام الماضي الذي استحق بجدارة توصيف "عام التضخم" ليس فقط من فرط مستوياته المرتفعة، بل من الخريطة الاقتصادية العالمية الواسعة التي شملها. وعندما يصل التضخم إلى الخانة العشرية في بلدان وضعت حده الأقصى عند حدود 2 في المائة، فإن الأمر يتطلب التدخل الاقتصادي "القوي" إن جاز الوصف. لكن أي تدخل له تبعاته المالية والاقتصادية السلبية أيضا، خصوصا إذا ما كان "السلاح" الوحيد المستخدم هو رفع الفائدة.
ارتفاع تكاليف الاقتراض عبر فائدة متصاعدة، يعني تلقائيا ضرب مسار النمو الموجود على الساحة. فالاقتراض الصحي يوفر مستويات نمو ثابتة وضرورية. لا توجد حلول أخرى للوقوف في وجه التضخم، إلا واحدا لم تستخدمه أي من الحكومات في الدول المتقدمة، وهو الاتفاق مع المؤسسات المنتجة على خفض الأسعار مقابل امتيازات ضريبية ومعها تسهيلات تجارية واسعة. بمعنى آخر، سيكون مثل هذا الاتفاق خطوة مهمة في "المعركة" الراهنة. وربما أسهم في التعجيل بالوصول إلى المستويات المعقولة للتضخم، ولا نقول المستوى المستهدف. لماذا؟ لأن إيصال التضخم إلى 2 في المائة أمر بات أكثر من صعب، ويتطلب وقتا يعد بالأعوام وليس بالأشهر. فحتى في أوقات الانفراج الاقتصادي لم تحقق الحكومات مستهدفها هذا.
مع وجود الفائدة "كسلاح وحيد"، لا مجال للحديث عن النمو. فهذا الأخير يتحقق بقوة في ظل فائدة منخفضة، بلغت حدود الصفر لأعوام في السابق، وبضرائب ليست مرتفعة تشجع الحراك الإنتاجي والأعمال بشكل عام. وهذان العاملان لا مكان لهما في الوقت الراهن. والمشكلة الأهم من تراجع النمو نتيجة ما يمكن وصفه بـ"الانضباط المالي"، هي دخول الاقتصاد في دائرة الركود المخيفة. وهذا ما حدث بالفعل في عدد من الدول، بينما تقاوم الولايات المتحدة حاليا للبقاء خارج هذه الدائرة، أي في ساحة التباطؤ الاقتصادي. فحتى البلدان التي اتسمت بنمو هائل في السابق "مثل الصين والهند" لن تحقق نسبا عالية من النمو. فلكي يكون هناك نمو ما لا بد من اتباع السياسة التقليدية السابقة وهي التيسير النقدي، وهذا أمر لا يمكن حدوثه في الوقت الراهن بأي شكل من الأشكال، مع التزام البنوك المركزية الرئيسة بالرفع التدريجي للفائدة.
باختصار لا يمكن خفض التضخم دون التضحية بالنمو، الأمر الذي يضع الساحة الاقتصادية في دائرة من التقلبات، وصفها بعض المختصين بالحلقة المفرغة. وهذه الأخيرة ناشئة عن أربعة عوامل، هي الفائدة والتضخم والركود والديون. ففي ظل الصعوبات الاقتصادية الراهنة، ترتفع وتيرة الاقتراض الحكومي حول العالم إلى مستويات مقلقة حتى في البلدان المتقدمة.
والصيف الماضي حذر صندوق النقد الدولي "مثلا" بريطانيا نفسها من تفاقم اللجوء إلى الاقتراض لتمويل عمليات خفض الضرائب التي اقترحتها حكومة ليز تراس السابقة. الاقتصاد العالمي يسير اليوم نحو آفاق ليست مجهولة، لكنها تتسم بمزيد من الصعوبة والإرباك، ليس فقط من ناحية تأخر كبح جماح التضخم، بل من جهة الإخفاق في الموازنة الاقتصادية المركبة، من نمو شبه غائب، وتباطؤ حاضر، وركود يلوح في الأفق، وفائدة لا تتوقف عن الارتفاع، وديون فاقت في كثير من البلدان حجم نواتجها المحلية الإجمالية.

إنشرها