Author

مواجهة التشرذم الاقتصادي .. التجارة والدين «2 من 3»

|

مدير عام صندوق النقد الدولي

سينطوي على هذه السلبيات تحديات بصفة خاصة أمام أولئك الأشد تضررا من التشرذم. فالمستهلكون أصحاب مستويات الدخل المنخفضة في الاقتصادات المتقدمة سيفقدون إمكانية الحصول على سلع مستوردة أقل سعرا. واقتصادات السوق المفتوحة الصغيرة ستتضرر بشدة. وستعاني معظم اقتصادات آسيا نتيجة لاعتمادها الشديد على التجارة المفتوحة.
وسيتعذر على الاقتصادات الصاعدة والنامية مواصلة الانتفاع من انتشار آثار التكنولوجيا التي عززت نمو الإنتاجية ورفعت مستويات المعيشة. وبدلا من اللحاق بركب مستويات الدخل في الاقتصادات المتقدمة، سيزداد العالم النامي تأخرا.
وحول الحديث عن التركيز على المجالات الأشد تأثرا به، التجارة والدين والعمل المناخي إذن، كيف يمكننا أن نواجه التشرذم؟ باتخاذ منهج براغماتي. ويعني ذلك التركيز على المجالات التي يكون التعاون فيها ضروريا، وتأخيره ليس خيارا متاحا، ويعني كذلك إيجاد سبل جديدة لتحقيق الأهداف المشتركة. وأود تسليط الضوء على ثلاث أولويات.
أولا، تقوية نظام التجارة الدولية، في ظل اقتصاد عالمي يعاني انخفاض النمو وارتفاع التضخم، نحن في حاجة إلى محرك للتجارة أقوى بكثير. فيتوقع تراجع النمو التجاري في 2023، وهو ما يزيد من أهمية التراجع عن الدعم التشويهي والقيود التجارية التي فرضت في الأعوام الأخيرة. ويبدأ تعزيز دور التجارة في الاقتصاد العالمي بإصلاح منظمة التجارة العالمية القوي وإبرام اتفاقيات لفتح الأسواق في ظل المنظمة. لكن طريق الوصول إلى اتفاق بشأن قضايا التجارة المعقدة لا يزال محفوفا بالمصاعب، نظرا إلى تنوع عضوية منظمة التجارة العالمية، والتعقيد المتزايد في السياسة التجارية، وتصاعد التوترات الجغرافية ـ السياسية. وفي بعض المجالات، يمكن للاتفاقات التجارية محدودة الأطراف، بين مجموعات فرعية من أعضاء منظمة التجارة العالمية، أن تفتح مسارا للمرحلة المقبلة. ولننظر - على سبيل المثال - إلى الاتفاق الأخير بشأن التعاون التنظيمي في قطاعات الخدمات ـ من التمويل إلى مراكز الاتصال ـ الذي يمكن أن يقلل تكلفة تقديم الخدمات عبر الحدود.
نحن نحتاج كذلك إلى البراغماتية في تقوية سلسلة الإمداد. ولكي نكون واضحين، بينما ظلت معظم سلاسل الإمداد محتفظة بصلابتها، أدت الاضطرابات الأخيرة في إمدادات الغذاء والطاقة إلى إثارة مخاوف مشروعة. ومع هذا، فإن الخيارات المتاحة أمام السياسات، مثل إعادة توطين النشاط يمكن أن تجعل الدول أكثر عرضة للصدمات. ويشير بحث جديد أجراه صندوق النقد الدولي، إلى أن تنويع النشاط يمكن أن يخفض الخسائر الاقتصادية المحتملة بسبب انقطاعات الإمداد إلى النصف.
وفي الوقت نفسه، ينبغي للدول أن تتوخى الحرص في ترجيح التكاليف، في الداخل والخارج، من فرض إجراءات الأمن الوطني على التجارة أو الاستثمار. ونحن نحتاج كذلك إلى حواجز لحماية الضعفاء من الإجراءات الأحادية. وهناك مثال جيد على ذلك وهو الشرط الذي اتفق عليه أخيرا لاستثناء الصادرات إلى الوكالات الإنسانية، مثل برنامج الغذاء العالمي، من القيود على تصدير الغذاء.
غير أن هذه الجهود، رغم أهميتها، غير كافية. فنحن في حاجة كذلك إلى سياسات أفضل في الداخل، بدءا من تحسين شبكات الأمان الاجتماعي، حتى الاستثمار في التدريب على رأس العمل، وزيادة حرية تنقل العمالة عبر مختلف القطاعات والمناطق والمهن المختلفة. وبهذه الطريقة يمكننا ضمان أن تعود التجارة بالنفع على الجميع.
ثانيا، مساعدة الدول الضعيفة على التعامل مع الدين، قد يزيد التشرذم من صعوبة مساعدة كثير من الاقتصادات الصاعدة والنامية الضعيفة التي تعرضت إلى أشد الضرر من جراء صدمات متعددة. ولننظر إلى أحد التحديات التي تواجه كثيرا من الدول بصفة خاصة، الدين. إن التشرذم يزيد من صعوبة تسوية أزمات الديون السيادية، ولا سيما إذا كان الدائنون الرسميون الرئيسون مقسمين على أساس جغرافي ـ سياسي.
لقد أصبح نحو 15 في المائة من الدول منخفضة الدخل في حالة مديونية حرجة بالفعل وهناك 45 في المائة أخرى معرضة إلى مخاطر شديدة تهدد ببلوغ هذه الحالة. وعلى مستوى الأسواق الصاعدة، أصبح نحو 25 في المائة منها معرضا لمخاطر عالية ويواجه فروقا في أسعار الفائدة على الاقتراض قريبة من التعثر في السداد.
وهناك بعض بوادر التقدم في عمل الإطار المشترك الذي وضعته مجموعة العشرين لمعالجة الديون، فقد توصلت تشاد أخيرا إلى اتفاق مع دائنيها الرسميين ومن القطاع الخاص، وتحقق زامبيا تقدما نحو إعادة هيكلة ديونها، وأصبحت غانا البلد الرابع الذي يسعى إلى معالجة ديونه في ظل الإطار المشترك، مرسلة إشارة إلى النظر إليه على أنه مسار مهم لتسوية الديون. لكن لا يزال أمام الدائنين الرسميين الكثير مما يتعين القيام به... يتبع.

إنشرها