Author

إعادة النظر في ممارسات المسوؤلية الاجتماعية

|

تعد المسؤولية الاجتماعية أمرا مثيرا للجدل، فهي غير منظمة، متفاوتة الممارسة والأثر، وتكتنفها حالة من عدم الرضا، يقودها مديروها وقياديو الشركات ومستثمروها والمستهدفون بها. لو نظرت إلى تطبيقها على مستوى الشركات لوجدت عددا كبيرا من الحالات الجدلية، تبدأ من التساؤل عما إذا كانت استثمارا بقيمة حقيقية أم مجرد أداة تسويقية للشركة. وستجد من يقول إنها يجب أن ترتبط بنموذج عمل الشركة وتستمد قيمتها منه وترتبط بتخصصها، وهناك من يرى عكس ذلك، فهي قد تشمل كل ما ينفع ويؤثر في محيط الشركة البيئي والاجتماعي. وستجد من يرى أن المعايير الجديدة - مثلا الاستثمار المبني على الممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة ESG - تشكل تطورا جديدا للمسؤولية الاجتماعية للشركات، وستنهي مفهوم المسؤولية الاجتماعية بوضعه الحالي وتقضي عليه. وهناك من يراها مجرد أدوات ترويجية جديدة - بما في ذلك مفهوم الاستدامة - وستظل متاحة للجميع كأدوات قائمة على المظهر المخادع أكثر من القيمة الحقيقية. ولو بحثت عن آثار المسؤولية الاجتماعية لوجدت كما هائلا من التباين في آلية القياس ومحاور القياس، هناك من يقيس أثرها بسمعة الشركة، وهناك من يقيسه بوصولها إلى المستفيدين، وهناك من يقيسه بأثر تقديمها للمستفيدين، سواء كانوا بشرا أو أشجارا.
تستند فكرة المسؤولية تجاه الغير إلى افتراض القوة أو الامتياز الذي يتاح لطرف ولا يتاح لآخر، ما يستوجب على الطرف الأقوى القيام بدوره الإنساني تجاه الطرف الآخر. وتقوم على عدة افتراضات منها أن هذه المسؤولية هي مسؤولية ذاتية التنظيم، أي "اختيارية"، فليس هناك أمر يجبر الطرف القوي على القيام بها، وهذا الافتراض لم يعد دقيقا كما كان، لأن التشريعات الخاصة بذلك وحتى المنافسة تصنع درجة من الالتزام والإجبار الذي لا يجعلها أمرا اختياريا كما نشأت أول مرة. وأخيرا يقوم هذا الالتزام على مستند أخلاقي، فهو يؤسس ويروج لعدد من القيم الأخلاقية الكبرى مثل التعاون والعطاء والمراعاة والإيثار في سياقات جديدة ومختلفة.
تداخل هذه المتغيرات واختلاطها مع المستهدفات الأساسية لأي تنظيم ربحي يثيران الفوضى حول صلابة ونبل هذا النوع من الأعمال، لذا تظهر بأنها شكلية وهامشية وغير مؤطرة بشكل نوعي مؤثر. لا يستطيع أحد أن يقيم المفهوم والممارسة على المستوى العام بشكل دقيق جدا، لكن هذا لا يعني أنها غير مهمة أو تنطوي على خداع يستحق التجاهل أو المحاربة.
تشكل الممارسات الغربية مصدرا للإلهام حول هذه الممارسات وبشكل أو بآخر نحن نتبع ما يحدث في عالم الأعمال المتقدم من تطورات، فتجارب الشركات الكبرى ونماذج العطاء للطرف الأضعف - مثلما يحدث في الدول النامية من دول وشركات أخرى - تعد حاملة لمشعل ممارسة هذا المفهوم الراقي. أعتقد أن هذه الخبرات مناسبة للتعلم كتجربة أو تجارب متقدمة، لكن هذه التجارب لا تمثل المسار الذي يستحق أن نسير عليه، هي مليئة بالمغالطات التي تحتم علينا أن نصنع مسارنا الخاص بنا. وهذا يتضح أكثر لو نظرنا إلى القاعدة الأخلاقية التي نستند إليها وإلى الفروق الثقافية والتاريخية والاجتماعية.
أعتقد أن المشهد العالمي للمسؤولية الاجتماعية مشوه بشكل كبير. تمثل اليوم المسؤولية الاجتماعية وادعاءاتها مدخلا للترافع ضد الشركات في حال الضرر على الموظف أو العميل. كما أن الشركات تصمم وتقيم ممارساتها من زاوية ترويجية وتسويقية بحتة، وتضع أثر ممارساتها على ميزان العلامة التجارية والسمعة وشكل الوجود في سوقها المستهدفة. كما أن المفاهيم والأيديولوجيات الخاطئة والمخالفة للفطرة البشرية تدخل ضمن أنشطتها من باب قبول ما يسود في المجتمعات الغربية. وهذا أمر بعيد جدا عن حماية الطرف الأقوى للطرف الأضعف، هو على العكس تماما، استغلال القوي للضعيف وتدميره.
لا أشكك في رقي وأهمية مفهوم المسؤولية الاجتماعية وما يشابهه من مفاهيم أخرى، لكن الممارسة بحاجة إلى إعادة نظر جذرية. أعتقد ضرورة تطوير الممارسات المحلية لتكون تعميما للتجارب الحسنة ونقلا للمعرفة واحتواء للأطراف الأقل حظا على مستوى الإنسان والشجرة والمنظومة. وهذا يتطلب جهودا مركزة وقيادة واضحة للممارسات، وهي مشكلة واضحة، لأن الفاعلين الأقدر لا يملكون الحافز الكافي للاستثمار في هذا المجال الإبداعي المهم.

إنشرها