توطين الذهب .. القرارات وحدها لا تكفي

يمثل الذهب أهمية مادية واقتصادية كبيرة للبشر منذ القدم، فإلى جانب استخدامه في الحلي والزينة، يعد ذلك المعدن النفيس من الثروات التي يعتمد عليها الأفراد والدول، ويشكل أهمية قصوى في الاقتصاد، كما أصبحت له بورصة عالمية للأسعار، تتغير كل يوم، ويلعب هذا المعدن الغالي دورا أساسيا في النظام النقدي الدولي.

وقد تم سك أول عملات ذهبية معروفة في التاريخ عام 550 قبل الميلاد. واستخدم في صنع العملات في عديد من الدول قبل التحول إلى العملات الورقية.

لكن حتى تلك العملات الورقية احتفظت بصلة قوية معه من خلال ما يعرف بقاعدة الذهب، وهي نظام نقدي كان يقوم على استخدام الذهب كقاعدة أو معيار لتحديد قيمة العملة الورقية لدولة ما، من خلال ربطها بكمية ثابتة منه.
ولا يزال الذهب يشكل القوة الأكثر بريقا عن الثروة للمستثمرين والأفراد، ويعد ملاذا للمستثمرين في أوقات الأزمات وتقلبات أوضاع الأسواق العالمية، خاصة التداول في الأسهم، فمركز الذهب العالمي يؤكد أن كمية الذهب المشتراة سنويا في العالم قد تضاعفت ثلاث مرات تقريبا منذ أوائل السبعينيات، وازدهرت أسواقه في جميع أنحاء العالم، ويتم شراؤه من قبل أشخاص مختلفين لأسباب مختلفة، ولاستخدامات متنوعة، خاصة في مقتنيات المجوهرات، وحتى في التكنولوجيا، ورغم أن الذهب كأصل لا يدر عوائد بذاته لكنه من خلال الصفات القوية وتذبذب الأسعار، يمثل قوة استثمارية، وهو الملاذ الآمن كلما تداعت الظروف الاقتصادية السيئة على الاقتصاد العالمي وعم القلق، وما زالت الدول والحكومات تثبت جدارتها الائتمانية بما تملكه من ذهب، كل هذا يجعل سوقه من الأركان الأساسية في أي اقتصاد، ويتم تتبع كل واردة منه وصادرة.
وفي هذا السياق، رصدت "الاقتصادية" من خلال تقاريرها المختلفة، ووفقا لبيانات هيئة الزكاة والضريبة والجمارك، أن واردات الذهب بلغت 125 ألف كيلوجرام من خلال 7606 بيانات جمركية، فيما بلغت صادرات الذهب 34.9 ألف كيلوجرام من خلال 817 بيانا جمركيا، وذلك خلال 2021، من الواضح أن هناك فرقا بين حجم الصادرات والواردات في المملكة، ما يعني أن لدينا عجزا في الميزان التجاري في هذا المعدن المهم، حيث إن إنتاج الذهب في المملكة، وفقا لتصريحات رسمية، في 2021، بلغ 347 ألف أوقية.

ولهذه الأهمية أجرت "الاقتصادية" استطلاعا واسعا بشأن تجارة الذهب، حيث أكدت آراء التجار والعاملين في هذه الصناعة، قضايا عدة، أبرزها أن هذا القطاع يتمتع بعوائد مجزية، وأنه يمثل فرصا استثمارية واعدة، وتنوعا واسعا في الأنشطة الداخلة في هذا القطاع بدءا من الاستيراد ثم عمليات التصنيع والبيع بالجملة والتجزئة، وهناك أنشطة كثيرة داعمة لهذا النشاط، منها ورش إصلاح وتعديل الذهب، بخلاف السوق الثانوية التي تتم من خلال شراء وبيع الذهب المستعمل، فحجم السوق السعودية، يعد كبيرا، يصل التداول إلى نحو 68 مليار ريال سنويا، ولا شك أنه قطاع ضخم بكل المقاييس، وبكل هذه الممكنات يعد فرصة للتوطين، ودعم الاستثمارات السعودية وتوظيف الشباب، ومع ذلك فإن الاستطلاعات تفيد بأن هناك ممارسات، تجعل استفادة المجتمع من هذا القطاع الضخم، محل نقاش واهتمام، وأكد عديد من الممارسين لهذه المهنة في السوق السعودية وجود عدد من الأجانب يعملون في محال الذهب والمجوهرات، ودخول تجار ومستثمرين من جنسيات عربية وأجنبية لمزاولة عمليات البيع والشراء في السوق بعد أن حصلوا على جنسيات خليجية مكنتهم من العمل في السوق السعودية، وباتوا يسيطرون على حركة البيع والشراء بشكل لافت، مستفيدين من تسهيلات ومزايا توفرها السوق الخليجية المشتركة لمواطني دول الخليج، لمزاولة الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية وغيرها من المسارات الأخرى، التي حددتها السوق الخليجية، ومن بينها حرية الإقامة والتنقل ونقل رؤوس الأموال، وأن هذه الظواهر السلبية عموما تأتي بعد مرور نحو 17 عاما على صدور أول قرار لتوطين أسواق بيع الذهب والمجوهرات، الذي صدر 2005، ولا يزال هناك تحايل على التوطين، ورغم وجود نظام لمكافحة التستر اليوم، الذي يتضمن عقوبات رادعة إلا أن من الواضح أن حجم العوائد المجزية في هذه السوق، قد جعلت التحايل على الأنظمة والتهرب منها بأشكال وصور عديدة، ظاهرة تستحق الوقوف أمامها والتصدي لها بكل الأشكال.
ووفقا للبيانات، فإن عدد السعوديين الذكور، الذين يعملون في هذه المنشآت بلغ 128 سعوديا، وعدد غير السعوديين يبلغ 279 شخصا، وبالتالي يبلغ إجمالي المشتغلين في المنشآت 407 أشخاص، في حين خلت البيانات لهذه المنشآت من أي عنصر نسائي، فهناك سيطرة للأجانب على هذه الصناعة المهمة، وليس في هذا تهديد للتوطين فقط، وسلب المواطن حقه في فرصة العمل الكريمة، بل يتعدى ذلك إلى التزوير والغش، وأن تجار الذهب والمستثمرين السعوديين يعانون انتشارا واسعا لورش الذهب، التي تديرها عمالة آسيوية داخل الأسواق والمنازل وغيرها من الأماكن الأخرى، وظهر ذلك جليا مع نتائج الحملات الرقابية التي قامت بتحرير 175 مخالفة خلال 2022، شملت عدم وجود دمغة، ونقصا في العيار، ونقص بيانات الفاتورة، وعدم إصدارها.
ومن اللافت للانتباه ثبوت أنه كلما كانت السوق بيد أسر سعودية وعائلات تجارية سعودية، كان قرار التوطين أكثر تطبيقا، وهذه النتيجة ظهرت مع كون قرار توطين المهنة أكثر وضوحا في المنطقة الشرقية، وسيطرة الأجانب أقل هناك، والسبب هو وجود عدد من العائلات المهنية، تتناقلها أجيالها، علمت هذه الأسر على تطوير نشاطهم بأفضل الأساليب العلمية، وتعليم أبنائهم طرق التسويق والبيع والشراء وتثمين قطع المجوهرات، وهذا ما نلاحظه في جولة "الاقتصادية" على عدد من محال الذهب والمجوهرات في هذه المنطقة، أن أبناء هذه العائلات هم من يديرون المحال، وانخفاض نسبة الأجانب العاملين في السوق، وهذه النتيجة تأتي رغم أن بيانات الهيئة العامة للإحصاء، تشير إلى أن مكة المكرمة استحوذت على النصيب الأكبر من المنشآت، تلتها المنطقة الشرقية ثم الرياض، ومع ذلك فإن تفوق المنطقة الشرقية في التوطين، يأتي نتيجة وجود الشركات العائلية المتطورة في هذا المجال، وخلاصة القول إن مجرد إصدار الأنظمة والقرارات لا تكفي وحدها ما لم يتم تطبيقها، وتكثيف حملات الرقابة لضمان تحقيقها وإيقاع العقوبات والغرامات اللازمة ضد المخالفين.
والامتثال الكامل والصحيح للتوطين، ومكافحة التستر لن يكتمل ما لم يتم ضخ الأسواق بمنشآت تجارية سعودية، وتشجيع الاستثمار الوطني بكل قوة في هذه القطاعات الثرية، ودعم الشركات العائلية حتى تسهم في النهوض بهذه القطاعات، وتمكينها بكل السبل الممكنة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي