التضخم والفائدة .. لا حلول نهائية

شهد العالم خلال 2022 أزمة ارتفاع معدلات تضخم مزمنة غير مسبوقة ضربت معظم الدول، وشكلت أسباب ارتفاع التضخم ومدى استمراريته موضوعا للنقاش المستمر بين خبراء الاقتصاد والمتخصصين، واتسعت دائرة النقاش فيه، وربط كثير من المحللين عوامل متنوعة أدت إلى أن الارتفاع الحالي في معدلات التضخم نتاج دوافع أساسية ذات انعكاسات متمددة. حتى منتصف 2022، تجاوز التضخم الكلي "سعر جميع السلع والخدمات"، والتضخم الرئيس "ما عدا أسعار الغذاء والطاقة"، كثيرا، المستويات المستهدفة في معظم الدول. وخرج التضخم عن السيطرة على الرغم من تطبيق مزيج محدد من السياسات النقدية والمالية لفترة مطولة، لكن القول باستمرار التضخم من عدمه نتيجة لذلك يتطلب مزيدا من الدراسة. وتعتمد الإجابة على توزيع الصدمات في الاقتصاد وردود أفعال البنوك المركزية. وكانت الولايات المتحدة نموذجا حيا للعالم في مسألة ارتفاع التضخم بأرقام قياسية غير مسبوقة.
وهنا نلاحظ أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حرصت طوال العام الماضي، على توصيف الوضع الاقتصادي المحلي بأنه متباطئ، في محاولة لإبعاد وصف الانكماش والركود عن الساحة. والحق أن الاقتصاد الأمريكي بدا أفضل من الاقتصادات الغربية الأخرى المشابهة في الأشهر الماضية، ولا سيما على صعيد مستويات التضخم. ففي بريطانيا "مثلا" قفزت معدلات أسعار المستهلكين إلى الخانة العشرية، وبلغ في منطقة اليورو حدود الـ10 في المائة، وإن تراجع بشكل طفيف خلال الشهر الأخير من العام الماضي. وحاول المشرعون الأمريكيون السيطرة على الموجة التضخمية الراهنة كغيرهم من المشرعين حول العالم، باللجوء إلى معدلات فائدة مرتفعة تتم زيادتها تباعا، لتصل أخيرا إلى 4.5 في المائة، في أعلى مستوى لها منذ أكثر من 15 عاما.
والإدارة الأمريكية ترغب بأي شكل من الأشكال في تقديم مؤشرات اقتصادية إيجابية، أو لنقل مؤشرات أقل حدة، لأسباب عديدة في مقدمتها ارتباط المشهد الاقتصادي المحلي العام بتوجهات الناخب الأمريكي، الذي حرم الديمقراطيين قبل شهرين في الانتخابات النصفية من أغلبيتهم في مجلس النواب، وإن مكنهم من مجلس الشيوخ بشكل بسيط. كما أن مشاريع الدعم والإنقاذ الاقتصادي التي أقرها البيت الأبيض، لا بد أن تحقق أهدافها، وإلا ستظهر علة أنها عبثية. والحق، أن إدارة بايدن تمكنت من السيطرة على مسار الاقتصاد، لكن بحدود، وليس بالمطلق. وهي تسعى إلى أن تعلن العام الحالي، عام التخلص من التضخم أو على الأقل السيطرة الكاملة عليه، بصرف النظر عن المستوى الذي سيقف عنده.
لا يمكن لهذه الإدارة أو غيرها أن تخفض التضخم إلى مستوى الحد الأعلى الرسمي له وهو عند 2 في المائة. والأمر نفسه ينطبق على الحكومات الأخرى في الدول المتقدمة. كما أنه لا يمكنها أن تعلن حالة الانتصار على الموجة التضخمية الهائلة التي يمر بها أكبر اقتصاد على وجه الأرض. وهذا ما أعلنه بوضوح صندوق النقد الدولي، الذي حذر واشنطن من إعلان غير محسوب لإنهاء التضخم. بل حض على أن يواصل المجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي" حراكه الدوري برفع الفائدة لكبح جماح هذه الموجة الشرسة والعنيفة في الوقت نفسه. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن "الاحتياطي الفيدرالي" لم يفكر في التخلي عن رفع الفائدة في الآونة الأخيرة، بل أقدم على زيادتها بوتيرة أقل مما سبق. إلا أن المسار العام لا يدل على قدرة المشرعين على خفض الفائدة على الأقل في العام الجاري.
وبالطبع تتمنى إدارة الرئيس الأمريكي عدم دخول الاقتصاد في حالة ركود هذا العام، وربما تستطيع أن تتجنب ذلك، مقارنة "مرة أخرى" بمثيلاتها في الدول الغربية. وكل ما تتمناه في الوقت الراهن، ألا ترتفع الفائدة إلى مستويات لا يمكن معها التفكير حتى في تحقيق نمو متواضع في الفترة المقبلة. فالهدف الرئيس يظل حول تحقيق نمو مقبول يساعد الأسر الأمريكية، كما يوفر قوة دعم للديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية المقبلة خلال أقل من عامين.
لكن المشهد العام لا يبشر بفائدة منخفضة بأي حال من الأحوال، وربما وجب على المشرعين في واشنطن أن يواصلوا رفع الفائدة بصرف النظر عن وتيرتها حتى يستطيعوا أن يأمنوا أي تطور خطير قد يظهر على صعيد التضخم. ومن هنا، يمكن فهم تحذيرات صندوق النقد الدولي للولايات المتحدة بعدم الإعلان مبكرا عن انتصار وهمي ما على التضخم، الذي لا يزال يضرب كل الاقتصادات الغربية قاطبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي