الغرب والعودة إلى الخث وسرقة أشجار الغابات

قد تكون مفردة "الخث" في متن عنوان مقالنا لهذا اليوم غريبة بعض الشيء على قرائنا الكرام. وأظن أن مرادفها بالإنجليزية peat لا يعلم معناه كثير من الناس في الغرب أيضا.
كان الناس في أوروبا في ماضي الأيام يعتمدون على الخث، وهو نسيج نباتي نصف متفحم، لتدفئة المنازل والطهي. الخث متوافر بكميات هائلة في الغرب، لكنه مصدر كبير لتلوث البيئة.
ولأن الخث يتكون من مواد عضوية كثيفة في طريقها أن تتحول إلى فحم حجري، فإنه يخزن كميات هائلة من الكاربون.
وكانت الدول الغربية في أوروبا على موعد هذا العام لوضع حد لاستخدام الخث حفاضا على الطبيعة، حيث يتكاثر وجوده في الغابات الرطبة والمستنقعات وكذلك حماية للأرض من الاحتباس الحراري.
بيد أن الحرب في أوكرانيا التي دخلت شهرها العاشر جلبت معها تبعات لم تكن في الحسبان.
شهد عصرنا هذا حروبا كثيرة وطويلة إلا أن وقع الحرب هذه يختلف، أولا لضراوتها ووحشيتها، وثانيا لأنها تمس مباشرة حياة شعوب تصورت أن النعيم الذي تعيشه دائم ومستدام، وأن الصراعات والحروب يقرأون عنها في الأخبار وحسب.
في الحقيقة لم تكن هذه الحرب الضروس صدمة للعارفين ببواطن الأمور وصراع العمالقة - روسيا من جهة والغرب بقيادة أمريكا من جهة أخرى - لكنها كانت صدمة كبيرة للشعوب الأوروبية، لأن غالبيتها الساحقة تصورت أن الغرب قد تعلم الدرس من الحروب العالمية، وأن العقل يديره وليس السلاح - كم كانوا مخطئين.
لا أعلم كم مشكلة جلبت هذه الحرب لأوروبا ودولها الغربية خصوصا، إنها حرب حتى إن وضعت أوزارها، وهذا يبدو بعيد المنال حاليا في أقل تقدير، فإن الأثر الذي تخلفه كوارثها سيبقى محسوسا لعقد من الآن.
قلبت هذه الحرب كثيرا من الأمور على عقب. بعد فترة طويلة كانت نسبة الفائدة فيها قريبة من الصفر والناس تتقاطر على المصارف للحصول على قروض ميسرة، شهدت الأشهر العشرة من عمر الحرب طفرات كبيرة في سعر الفائدة مع تشديد كبير في السياسات المالية الائتمانية.
لا تتحدث الصحف الغربية كثيرا عن فقاعة العقار لكن لم يعد بيع العقار أمرا يسيرا والأسعار في نزول، وخدمة الديون في ارتفاع شديد.
وإن كان من النادر لشخص أن يملك عقارا دون قرض من المصارف، يصير جليا خطورة الوضع بالنسبة إلى ملايين الناس في كل بلد غربي تقريبا.
الأسعار بصورة عامة التي ارتفعت بشكل غير مسبوق في غضون عشرة أشهر تحدث معاناة شديدة تجعل الناس تبحث عن أي وسيلة تمكنها من الاستمرار، ولو بالعيش على حد الكفاف.
هناك تحول في أسلوب العيش وفي إعداد وجبات الطعام وارتياد المطاعم بالنسبة إلى شريحة كبيرة من الناس، وسنتطرق إلى ذلك في المقبل من الأيام.
لكن أهم تحول ملحوظ يجري في طرق استهلاك الطاقة التي أصبحت أسعارها خارج طاقة تحمل كثير من الناس.
قبل عشرة أشهر، كانت الفواتير السنوية قد لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات، أما اليوم فإنها تصل إلى بضعة آلاف من الدولارات.
ولم تكن الناس تفكر بالخث، حيث كان في طريقه إلى النسيان، والخشب كانت الناس تشتريه لإشعال المدافئ والمواقد المنزلية، وكانت تشعلها لإضافة البهجة إلى المنزل والاستمتاع ببريق الألوان التي تعكسها النيران المشتعلة.
أما اليوم ومع انخفاض درجات الحرارة إلى الجماد، فالمرء محظوظ إن كان في إمكانه الوصول إلى غابة يتوافر فيها الخث أو الخشب، وإن لا فإن البحث عنهما مثل البحث عن معدن ثمين، وصارا مصدرا للربح بالنسبة إلى الفلاحين واللصوص رغم لما للعملية من تأثير سلبي في البيئة.
وقد يستغرب القارئ الكريم، فإن الصحافة الغربية تنشر حاليا تقارير كثيرة عن موجات من السرقات وفي ألمانيا ذاتها، أغنى دولة في أوروبا، حيث يجوب الناس في سياراتهم الغابات لسرقة أكوم الأخشاب المعدة للتصدير أو البيع.
وتتحدث الصحافة عن ظاهرة الباعة المتجولين في بعض الدول الغربية وهم يجوبون المحال السكنية بسياراتهم لبيع ما سرقوه من الخث أو الخشب.
كل هذا يحدث وغيره أيضا والدول هذه قد خصصت بدلات مجزية لحماية محدودي الدخول وأصحاب الشركات الصغيرة من التأثير السلبي لارتفاع أسعار الطاقة.
وأنت تجوب المحال التجارية ما يسترعي نظرك هو أكوام الحطب التي يلجأ إليها الناس للتدفئة في أغلب الدول الأوروبية، خصوصا ألمانيا، حيث وقع النقص في إمدادات الغاز الروسي أكثر إيلاما من أي بلد آخر.
وما نقرأه ونشاهده قد يكون شيئا من الخيال أو جزءا من فيلم سينمائي لكنه الواقع.
يشتكي مالكو الغابات من السرقات في ألمانيا التي تقدر قيمتها منذ مقدم الشتاء هذا العام بمئات الملايين من الدولارات، والأنكى فإنهم يشتكون من ظاهرة مجاميع كبيرة تمتهن السرقة وتجوب بشاحناتها الكبيرة والمتينة الغابات لملئها بمواد البناء والحطب والفرار بهما.
وفي حادثة واحدة في ألمانيا جرت تغطية واسعة لها في الصحف، قطع اللصوص أكثر من 100 شجرة بماكيناتهم وهربوا بها.
ما أحدثته وتحدثه هذه الحرب في أوروبا لن يكون صادما بالنسبة إلى الناس الذين عانوا الأمرين من حروب الغرب في أمصارهم، لكنها أول مرة منذ أكثر من سبعة عقود يعاني الغرب ذاته وقع ما تحدثه حروبه في أراضي الآخرين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي