كرة القدم ولسان الضاد

بعد سلسلة طويلة من المقالات الكئيبة حول نتائج وتبعات الحرب الضروس في أوروبا، ودي نقل قرائي إلى ما قد يفرح النفس ويدخل بعض البهجة عليهم.
إنها الكرة، وهذه الكرة ليست كرة عادية، إنها كرة ساحرة، تركل بالقدم، وكل واحد منا في إمكانه ركل الكرة هذه بقدمه، لكن سحرها يبدو عيانا عندما تمسها أقدام ساحرة.
ومالكو الأقدام الساحرة قلة من البشر، انظر ماذا يفعلون بالدنيا وهم يركلون الكرة بأقدامهم في الدوحة، عاصمة قطر.
هل رأيت كرة يدمع الناس من أجلها، أو يرقصون طربا؟ هل رأيت كرة تقفل الأسواق من أجلها؟ وهل رأيت كرة تهتز الدنيا معها إن رماها لاعب في الهدف وهزت شباكه؟
والله أنا لست من هواة هذه الكرة السحرية، إلا أن ما استرعى انتباهي وأثار في بعض الحب لها كان تفاعل العرب مع هذه الكرة في مباريات كأس العالم في الدوحة.
والتفاعل الذي في ذهني يخص الاحتفالات الشعبية التي تعم كل الدول العربية، أو بالأحرى الناطقة بلسان الضاد، حال فوز فريق عربي، وأخص بالذكر فريق المغرب أي "أسود الأطلسي".
وحاولت أن أجيب على سؤال راودني كثيرا، وآمل أنني وجدته، وهو: ما الذي يجعل الناس ترقص طربا من المحيط إلى الخليج لأي إنجاز يحققه الفريق المغربي؟
بمناسبة وجودي في بلد عربي حاليا يقع على حافة الدنيا الثانية من حيث البعد الجغرافي عن المغرب، شاهدت الناس وهي تحتفل وترقص في الشوارع وتوزع الحلوى لفوز المغرب لمباراة في كرة القدم.
ما الخطب؟ ولماذا وكيف؟ هذه أسئلة لا أظن يصعب على متشبع بالحضارتين العربية والإسلامية تفكيكها حتى إن كان أعجميا.
الجواب، في رأيي، يكمن في لسان الضاد، هذا اللسان يجعل المغرب قريبا جدا من المملكة ومصر والسودان وغيرها من الدول الناطقة بلسان الضاد.
لسان الضاد حضارة، نحن هنا لسنا أمام لغة عادية وهناك آلاف اللغات في العالم وهناك كثير من الدول التي تنطق الإنجليزية، لكن الأسترالي الذي لغته الإنجليزية لا يرقص في الشوارع لفوز أمريكا في مباراة كأس العالم لكرة القدم.
لسان الضاد لا يجمع الناطقين به فحسب، بل يشكل هويتهم وثقافتهم، لسان الضاد هو البوتقة التي تنصهر فيها الشعوب الناطقة بهذه اللغة.
ولهذا عندما يزور أستاذ أعجمي يملك ناصية هذه اللغة الجميلة نطقا وكتابة بلدا عربيا، ويتحدث اللغة الفصيحة في الجامعة وخارجها، يلتئم الناس حوله ويصبح نبراسا للطلبة وزملائه.
قد لا يعرف الناطقون بلسان الضاد أن لسانهم ربما هو الوحيد في العالم الذي حافظ على رونقه ونحوه وصرفه لا بل صفائه منذ أن أرسى القرآن الكريم دعائم هذ اللغة.
من العسر بمكان أن يكون في وسع ناطق بأي لغة في عصرنا هذا قراءة نصوص كتبت قبل 1500 عام باللغة ذاتها، فقط الناطقون بلسان الضاد والمتمكنون منه في إمكانهم ذلك.
إن كان للعرب ودولهم حضارة - ولهم حضارة يشار إليها بالبنان ـ فإنها اللغة العربية، لولب الحضارة الإسلامية هو لسان الضاد.
وشخصيا أنا لا أرفق اللغة بالدين، لأن الدين يجمع لغات وأقواما شتى، بينما اللغة تجعل الناس تفتخر بهوية وثقافة وفنون وآداب واحدة، والفنون والآداب من أرقى ثمار الحضارة الإنسانية.
لسان الضاد جمع الناطقين به خلف الفريق المغربي، لو كان الفريق المغربي لا يمثل دولة ناطقة بالعربية، لكان شأنه شأن الفريق الإنجليزي أو البرتغالي أو الإيراني أو الأرجنتيني، قد يهتم الناس بكرة القدم، لكن ما يجمعهم هوية وثقافة وفنونا وآدابا هو الذي يحدد انتماءهم.
من هنا ينتمي العرب ـ الناطقون بلسان الضاد ـ إلى المغرب ويرون الفريق المغربي كأنه فريقهم لأنه ينطق بلسانهم.
ومن هنا إن أراد العرب الحفاظ على هويتهم وفنونهم وآدابهم وتراثهم لا بل وجودهم عليهم التشبث بلسان الضاد وممارسته واستخدامه على أوسع نطاق.
وأحث الدول العربية على ممارسة اللغة الفصيحة، لغة القرآن والحديث، وعدم التخلي عنها في التعليم والإعلام والتدريس على المستويات كافة.
وأشجع العرب على النطق بها في المناسبات الرسمية عند وجودهم في المؤتمرات والاجتماعات التي تجمع شتى الأمم والألسنة.
ولنا في حارس المرمى المغربي أسوة حسنة، عندما أجاب عن سؤال في مؤتمر صحافي وجه له بلغة أعجمية فما كان منه إلا التفاعل مع السؤال بالعربية رغم إتقانه للغة الأعجمية، العرب ليسوا إلا لسانهم الفصيح إن خسروه خسروا أنفسهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي