موازنة 2023 برؤية 2030

في المحاسبة المالية الحكومية لا شيء يجعلك سعيدا مثل تحقيق التوازن بين النفقات والإيرادات، لكن سيكون الأمر أكثر من مجرد سعادة بل إنجازا كبيرا عندما تصبح الإيرادات أكبر، وهناك فوائض مالية، ففي عالم المحاسبة المالية الحكومية، تبدأ إجراءات إعداد الموازنة من خلال حصر كل أوجه الإنفاق وتحديدها بدقة، وعند إقرارها واعتمادها من أعلى سلطة في البلاد تصبح بذلك وعدا قاطعا على المالية الحكومية بالدفع مهما كانت الظروف، إلا في حالات صعبة وحرجة جدا، ثم تبدأ المالية العامة في حصر كل الإيرادات المتوقعة من كل مواردها السيادية والاستثمارية، وهي في هذا الحصر تقدر تقديرا ما يمكن توقعه من إيرادات، وهذه التقديرات تتأثر بالوضع الراهن والتقلبات الاقتصادية المستقبلية، وبعد هذا كله إذا كانت الإيرادات المتوقعة تتفوق على كل النفقات المتوقعة فإن الفائض المتوقع يصبح حلما جميلا يرغب الجميع في تحققه، وهذا يتطلب عملا طويلا خلال العام المالي ونقاشات مضنية لا تنتهي من أجل جمع كل الإيرادات التي تم تقديرها وفي وقتها الصحيح، مهما كانت المعوقات والتحديات الاقتصادية، مع ضبط كل النفقات ومراقبتها بشكل مستمر حتى لا تتجاوز سقوفها المقررة.

فإذا جاءت لحظات الحقيقة وتم حصر كل الإيرادات التي تحققت فعلا والمصروفات التي أنفقت فعلا في نهاية العام، تبين حجم الإنجاز الذي تحقق، وأصبح الفائض المقدر حقيقة واقعة.

وفي دولة بحجم المملكة وبكل الطموح الذي قاده الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء لتحقيق رؤية المملكة 2030، وفقا لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، فإن هذا الإنجاز يتطلب تحقيقه جهودا كبيرة وجبارة، وإذا أضفنا إلى كل هذا التحدي السنوي أن الرؤية منذ انطلاقها عام 2016 قد وعدت بتحقيق توازن في المالية العامة عام 2023 والتحول من العجز إلى الفائض، فإن هذا كله يتمثل تحديا إضافيا كبيرا يتطلب تأكيده الالتزام الصارم بمبادئ محاسبية، مثل استقلال الأعوام، والشفافية، ومكافحة الفساد وحوكمة الأعمال.

ومع صدور موازنة عام 2023 وميزانية عام 2022، أثبتت السياسات المالية - التي انتهجتها الحكومة بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - نجاح كل هذه الخطط، وتحقق كل الوعود الصعبة، وبهذا صرح ولي العهد رئيس مجلس الوزراء بهذه المناسبة، مؤكدا نجاح الإصلاحات الاقتصادية والمالية الهادفة إلى تعزيز النمو الاقتصادي الشامل، وتقوية المركز المالي للمملكة بما يضمن الاستدامة المالية نحو مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح، مؤكدا أيضا ما يوليه المقام الكريم من رعاية وتوجيهات سديدة لتحقيق الغايات المنشودة لازدهار اقتصادنا الوطني، وتقدم المملكة في المجالات كافة.
لقد كان الوصول إلى هذه المرحلة المستقرة ماليا واقتصاديا يمثل إنجازا كبيرا في حد ذاته، وفقا لكل الظروف التي شهدتها المملكة طوال الأعوام الماضية ومنذ انهيارات السوق النفطية عام 2015، مرورا بكل الإشكاليات التي نتجت عن كورونا والنزاعات الإقليمية والعالمية، وقد انعكس هذا الإنجاز في المالية العامة على تحقيق استقرار اقتصادي واسع النطاق، بدأ من انخفاض معدلات البطالة بين المواطنين إلى 9.7 في المائة خلال الربع الثاني من عام 2022، وهو الأقل خلال الـ20 عاما الماضية، وهناك اليوم أكثر من 2.2 مليون مواطن يعملون في القطاع الخاص، وهو الرقم الأعلى تاريخيا، مع وصول المشاركة الاقتصادية للمرأة إلى 35.6 في المائة، وهو أيضا رقم قياسي تاريخي.

لكن هذا الإنجاز بكل ما فيه من دواعي الفخر يتصاغر أمام التطلعات الكبيرة التي يحملها القائد الكبير الأمير محمد بن سلمان، الذي تحدث عن المستقبل أكثر مما تحدث عن الماضي، وأكد مبدأ مفاده أن المواطن السعودي هو أعظم ما تملكه المملكة العربية السعودية للنجاح، ودور المواطن محوري في التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة، ويسهم بشكل مباشر في تحقيق الإنجازات والمضي قدما في مختلف المجالات والقطاعات الواعدة.
من هذا المنظور فإن كل برامج الرؤية التي تتم ترجمتها في شكل نفقات في الميزانية العامة ومشاريع الصناديق التنموية واستثمارات صندوق الاستثمارات العامة تسعى إلى تنمية رأس المال البشري، وفقا لمفهومه الواسع الذي يتضمن تعزيز جودة حياة المواطنين، وتطوير البنى التحتية للمدن، وتوفير جميع الخدمات وفق أعلى المستويات العالمية، وهذا التطوير المتكامل يعود على المواطنين، بما في ذلك زيادة فرص التوظيف وتحسين مستوى الدخل العام. وتأكيدا لذلك فقد قال - حفظه الله - في معرض تصريحه إن الحكومة تستهدف في ميزانية 2023 ترتيب أولويات الإنفاق على المشاريع الرأسمالية وفق الاستراتيجيات المناطقية والقطاعية، وإنها مستمرة في تنفيذ البرامج والمشاريع ذات العائد الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى دعم التنوع الاقتصادي وتمكين القطاع الخاص بتحسين بيئة الأعمال، وتذليل المعوقات، لجعلها بيئة جاذبة، ورفع معدلات النمو الاقتصادي للعام المقبل وعلى المدى المتوسط.
وبعد تحقيق كل المستهدفات السابقة والتحول من العجز إلى الفائض وتراجع مستويات الدين العام، نحن هنا اليوم الآن أمام موازنة تاريخية، تعد مرحلة جديدة بذاتها، مع استمرار الجهود لتنويع الاقتصاد عن طريق تطوير القطاعات الواعدة، مع مواصلة تعزيز منظومة الدعم والحماية الاجتماعية للمواطنين، لما تشكله من أهمية في توفير مستوى معيشي كريم للمواطنين كافة، وبالذات الفئات الأقل دخلا.

وهي مرحلة جديدة أيضا لأنها تحمل في طياتها خططا مستقبلية كبيرة واستراتيجيات تم إطلاقها خلال العامين الماضيين من أجل تحقيق قفزات جديدة مباركة، من أهمها الاستراتيجية الوطنية للصناعة من أجل تحقيق أثر إيجابي ضخم في اقتصاد المملكة بأكثر من 800 فرصة استثمارية بقيمة تريليون ريال، ومضاعفة قيمة الصادرات الصناعية لتصل إلى 557 مليار ريال، ووصول مجموعة قيمة الاستثمارات الإضافية في القطاع إلى 1.3 تريليون ريال، وزيادة صادرات المنتجات التقنية المتقدمة بنحو ستة أضعاف، إضافة إلى استحداث عشرات الآلاف من الوظائف النوعية عالية القيمة.
هذا إضافة إلى المبادرة الوطنية لسلاسل الإمداد العالمية، كإحدى مبادرات الاستراتيجية الوطنية للاستثمار، التي أطلقها ولي العهد في أكتوبر عام 2021، بهدف جذب استثمارات نوعية، صناعية وخدمية، بقيمة 40 مليار ريال سعودي خلال العامين الأولين من إطلاق المبادرة، وقد خصصت لهذه المبادرة حوافز تبلغ نحو عشرة مليارات ريال سعودي لتقديم حزمة واسعة من الحوافز المالية وغير المالية للمستثمرين.

هنا نقف اليوم ونحن نتطلع إلى مشاريع نيوم وهي تنطلق ومشاريع البحر الأحمر التي يتم تدشينها يوما بعد يوم، فالمستقبل سعودي بإذن الله وتوفيقه، ثم بتوجيهات خادم الحرمين الشريفين والقيادة الرشيدة لولي العهد محمد بن سلمان رئيس مجلس الوزراء، ومتابعته الحازمة حتى تتحقق الإنجازات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي