Author

قراءة لمشهد اقتصاد المملكة في 2022 وميزانية 2023

|

اقتصادي في السياسات الاقتصادية وإدارة استراتيجيات الأعمال والشراكات الاستراتيجية.

المشهد الاقتصادي العالمي يعيش حالة عدم يقين، إلا أن الاقتصاد السعودي في 2022 قفز لمستويات جديدة متجاوزا كل التحديات ومحققا نموا تفوق فيه على الدول المتقدمة والصاعدة والنامية، كما أن صناع السياسات الاقتصادية والمالية نجحوا في تخفيف آثار أسعار الوقود والغذاء على الصعيد المحلي دون أن تتخلى المملكة عن منهجها الإصلاحي للمالية العامة حتى مع تحسن عوائد النفط، بل انتقلت وزارة المالية إلى المرحلة الثانية، مرحلة الاستدامة ضمن مستهدفات المالية العامة للمحافظة على مشهد اقتصادي مستقر ومن خلال سياسات تعتمد على إنفاق استراتيجي يدعم التغير الهيكلي ومالية متوازنة ومستدامة بعيدة عن أي صدمات اقتصادية مؤثرة عبر أسقف إنفاق أكثر استقرارا ودعم استدامة الإيرادات غير النفطية.
نظرة على النمو والتضخم المحلي والعالمي
في الوقت الذي تراجعت فيه توقعات النمو الاقتصادي العالمي إلى 3.2 في المائة لعام 2022 بسبب ارتفاع معدلات التضخم والمدفوع أساسا بصعود أسعار الطاقة والغذاء ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة لم يتخط التضخم في المملكة حاجز 3.1 في المائة على أساس شهري و2.6 في المائة على أساس سنوي لعام 2022 وفق التقديرات، أما على المستوى العالمي تشير التوقعات إلى ارتفاع معدل التضخم إلى 8.8 في المائة لعام 2022، على سبيل المثال - بلغ التضخم بحسب بيانات تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في منطقة اليورو 10.6 في المائة وسجلت كل من إيطاليا وبريطانيا وألمانيا معدلات تضخم تخطت حاجز 10 في المائة، وصل التضخم في إيطاليا إلى 12.6 في المائة وبريطانيا 11.1 في المائة وألمانيا 10.4 في المائة، أما في الولايات المتحدة استقر عند 7.7 في المائة للفترة نفسها، وفي كل من الهند والبرازيل كدول صاعدة تخطى التضخم 6.5 في المائة وفق بيانات أكتوبر أيضا، وقفز التضخم في اليابان إلى 3.8 في المائة وهو مؤشر على حالة ارتفاع رتم تكاليف المعيشة وهي تشكل حالة استثنائية لم يتعود عليها الاقتصاد الياباني منذ عقود ولم يصل التضخم لدى اليابانيين إلى هذه المستويات منذ 1991 أي على أساس سنوي.
كان للتدابير والسياسات المالية والاقتصادية التي اتخذتها المملكة دور جوهري في السيطرة على التضخم الذي أثر في دول العالم في 2022 من خلال اعتمادها على سياسة وضع سقف لأسعار الوقود وسياسة الدعم المالي المباشر للمواطنين عبر الضمان الاجتماعي للأسر الفقيرة وحساب المواطن لتقليص آثار التضخم على جميع المواطنين المؤهلين، إضافة إلى سياسات أخرى مثل زيادة المخزونات الاستراتيجية للمواد الأساسية وتطبيق سياسات تحوط سلعي وهي منهجية مبتكرة إلى حد كبير، أي ضمان تعويض الشركات عن فرق الأسعار للسلع الأساسية عند تأمين الأسواق بالكميات التي تضمن الوفرة الدائمة للسلع.
تجاوز النمو الاقتصادي للمملكة عددا من الدول المتقدمة والصاعدة والنامية، وتوقعات 2022 للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي تشير إلى 8.5 في المائة والاسمي يقدر بأن يصل إلى 3957 مليار ريال وبذلك يتخطى حاجز تريليون دولار، وحقق الاقتصاد السعودي أيضا أداء أفضل مقارنة بالنمو للناتج العالمي 3.2 في المائة ومنطقة اليورو 3.1 في المائة وبريطانيا 3.6 في المائة والصين 3.2 في المائة والهند 6.8 في المائة، بحسب بيانات صندوق النقد المقدرة في أكتوبر الماضي.
ارتفع أداء اقتصاد المملكة نتيجة لصعود أسعار النفط العالمية حيث بلغ معدل نمو الناتج المحلي الحقيقي للأنشطة النفطية 19 في المائة منذ بداية العام حتى نهاية الربع الثالث، إضافة إلى نمو ملحوظ في معدل الناتج المحلي الحقيقي للأنشطة غير النفطية 5.8 في المائة للفترة نفسها، على الرغم من حالة عدم اليقين التي يعيشها الاقتصاد العالمي والمخاطر المتنوعة والأحداث الجيوسياسية المؤثرة في النمو الاقتصادي.
المالية العامة من التوازن إلى الاستدامة
منذ 2016 والإصلاحات المالية تتوالى بطريقة متسقة وشفافة وواضحة لتحقيق الاستقرار المالي وتقليص صدمات أسعار النفط على اقتصاد المملكة وميزانية الدولة من خلال التخلي عن السياسة القديمة التي كانت تقوم على خفض الإنفاق الشامل عند تدني أسعار النفط والانتقال إلى مزيج من سياسات مالية واقتصادية كلية لتحييد تذبذب أسعار النفط عن الاقتصاد وبالتالي الحد من تذبذب النمو الاقتصادي الناتج من حركة الأسعار للنفط.

المملكة تواصل المحافظة على زخم الإصلاحات على الرغم من تحسن أسعار النفط وهناك فرص لتنامي الفوائض المالية للعام الحالي والعامين المقبلين عند السيناريو الأفضل للدول النفطية وأسعار النفط المستقبلية ولا سيما بعد أن حققت ميزانية 2022 فائضا ماليا 102 مليار ريال ويمثل 2.6 في المائة من الناتج المحلي، وقدرت موازنة 2023 أن الإيرادات ستبلغ 1130 مليار ريال والنفقات 1114 مليار ريال وبفائض مقدر في حدود 16 مليار ريال وبمستوى دين عام 951 مليار ريال حتى نهاية 2023 ويمثل 24.9 في المائة من الناتج المحلي،

وتشير التقديرات إلى أنه سيصل الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بنهاية عام 2023 إلى 3869 مليار ريال، على أية حال: الدول التي تعتمد على النفط والغاز والموارد الاستخراجية لا تصمد سياساتها الإصلاحية عند تحسن الأسعار إلا أن المملكة نجحت في كسر ذلك من خلال الانتقال من المرحلة الأولى 2016 - 2021 مرحلة "التوازن المالي" التي اتسمت بالعمل على خفض الاعتماد على الإيرادات النفطية ورفع كفاءة التخطيط المالي والتخطيط المالي والاقتصادي متعدد الأعوام، إلى الانتقال إلى المرحلة الثانية من إصلاحات المالية العامة وهي مرحلة "الاستدامة المالية" ظهرت بوضوح منذ بداية عام 2022 وسيعمل بها على المديين المتوسط والطويل وتستهدف المحافظة على مؤشرات مالية مستدامة من خلال الإنفاق الاستراتيجي ومساعدة الاقتصاد الوطني لتغيير هيكليته ودعمه بطريقة غير متذبذبة مع المحافظة على مراكز مالية جيدة للاحتياطيات وتغذيتها من الفوائض السنوية، إضافة إلى تحسين استدامة الدين العام،

كما أن النفقات بجميع صورها ستركز على الأولويات التي تعطي أثرا أفضل على الاقتصاد حتى ولو ظهرت تلك الأولويات لاحقا، إضافة إلى الإنفاق على تسريع بعض المشاريع والمبادرات التابعة لـ"رؤية 2030"، وفي كل الحالات ما نراه ليس إلا نمطا من المزاوجة بين الكفاءة والفاعلية.
منهجية الإنفاق الجديدة وتوسيع الطاقة الاستيعابية للاقتصاد
عمليا يؤدي الإنفاق الحكومي المفاجئ والمرتفع من أموال النفط المباشرة على الاقتصاد إلى نشوء ارتفاعات حادة في الأسعار العامة للسلع والخدمات واتجاه الاستثمارات إلى قطاعات مثل العقار والإنشاءات والخدمات الحكومية وهذه الحالة نراها في الدول النفطية، ويعزى ذلك إلى أن الإنفاق أعلى من الطاقة الاستيعابية للاقتصاد وهو أسلوب كان متبعا ما قبل 2016 في السعودية،

وعلى الرغم من ذلك، هذه المرة يرجع ارتفاع أسعار العقارات للدعم الموجه لتملك المواطنين وتحقيق مستهدفات الرؤية لزيادة نسبة التملك وليس ناجما عن متلازمة الإنفاق ومحدودية الطاقة الاستيعابية للاقتصاد التي تعد ظاهرة في الدول الاستخراجية للنفط والغاز، بدليل أن معدل التضخم في المملكة كان في مستويات مقبولة، أي في نطاق 3 في المائة عام 2022 وإضافة إلى ارتفاع معدلات توظيف السعوديين وإلى مستويات تاريخية حيث بلغ عدد السعوديين العاملين في القطاع الخاص 2.2 مليون مواطن في 2022، وهذا مؤشر على أن القطاع الخاص يتوسع بطريقة تترافق مع خطط التوطين والإحلال، بمعنى آخر: سنرى نتائج أفضل على مستوى نسب توظيف المواطنين وأسعار العقارات وتنوع الأنشطة الإنتاجية عند توجيه القروض إلى مسارات أخرى وفق "رؤية 2030" مثل قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة بما في ذلك القطاع الزراعي والسياحي والقطاعات الجديدة مثل الترفيه والصناعات العسكرية والمحتوى المحلي ومشاريع الرؤية الكبرى، بما في ذلك الصناديق التنموية الأخرى، وهذا بدوره أي تمكين القطاع الخاص وتحفيز قاعدة التنوع الاقتصادي وتنمية الطاقة الاستيعابية للاقتصاد وتقليص مخاطر الاستثمار طويل الأجل وكل ما سبق ما هو إلا نتائج لطريقة الحكومة في الإدارة المالية عبر الاعتماد على القواعد المالية ومزجها مع السياسات الاقتصادية،

لهذا نتوقع أن أثرها سيكون أكثر وضوحا مع المرحلة الثانية للمالية العامة والمعروفة بـ"الاستدامة المالية" على المديين المتوسط والطويل بداية من 2023، لأن أسقف الإنفاق في هذا الجانب ستكون أكثر استقرارا حتى في الموازنات التوسعية في ميزانيات الأعوام المقبلة وهذا النمط المخطط من الإنفاق لا يربك القطاع الخاص، بل يساعده على التوسع والنمو وتحسين خططه الاستراتيجية طويلة المدى بما في ذلك فرص تخطيط الاستدانة طويلة الأجل وكذلك سيحفز على دخول استثمارات أجنبية مباشرة تبحث عن أسواق مستقرة ولديها قدرة استهلاكية مرتفعة.

إنشرها