Author

مصالح متشابكة وتحالفات مرتبكة

|

ليس واضحا تماما توجه قادة الاتحاد الأوروبي حيال ما أصبح منذ أعوام عديدة يعرف بـ "التنافس الأوروآسيوي". صحيح أن للمفوضية الأوروبية مخططاتها الخاصة بهذا الشأن، لكن الصحيح أن الجانب الأوروبي لم يحسم كثيرا من القضايا العالقة بهذا الشأن، ولا سيما من جهة العلاقة التاريخية التي تجمعه بالولايات المتحدة. فهذه الأخيرة طرحت في الأعوام القليلة الماضية سياستين: الأولى من جانب إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب التي تستند إلى إبعاد بلاده عن الشأن العالمي المباشر، والتركيز على الجانب المحلي أكثر، وعدم منح الحلفاء في الغرب مزيدا من الامتيازات، أو العلاقات الخاصة، إن جاز التعبير. والثانية، تلك التي تحدث حاليا من جانب إدارة الرئيس جو بايدن، الذي يعتقد عكس ما يؤمن به ترمب في هذا المجال الاستراتيجي الواسع.
ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل عشرة أشهر تقريبا، زادت حدة الأسئلة على الساحة الأوروبية المتعلقة بموضوع التنافس الأوروآسيوي. فالأوروبيون باستثناء البريطانيين يعتقدون ضرورة حل سياسي سريع لأزمة يمكن أن تؤدي لنشوب حرب عالمية ثالثة مدمرة. ومثل هذه الخطوة إذا ما تمت تدعم قوتهم في التنافس المشار إليه، ولا سيما مع الصين الاقتصاد الثاني في العالم، والقوة المتصاعدة بصورة سريعة.
فالمصالحة مع الرئيس فلاديمير بوتين، حتى لو تضمنت تراجعا لهذا الأخير بصورة أو أخرى، تعد حجر الزاوية الآن للاتحاد الأوروبي، إذا ما أراد أن يكون مؤثرا وربما مسيطرا أكثر في تنافس يعتقد بعض السؤولين في المفوضية الأوروبية، أنه لا بد من وجوده إن تطلب الأمر مراجعة ما للعلاقة أو للمفاهيم السياسية الدولية مع الحليف الأمريكي.
الموقف الفرنسي معروف منذ بداية الحرب في أوكرانيا، وهو الإبقاء على الخطوط مفتوحة مع بوتين بأي شكل من الأشكال، كما أن هذا الموقف يدعم بقوة انفراجا متوازنا في العلاقة مع الصين، وهذا ما تدعمه ألمانيا التي بلغ وضوح موقفها درجة أن أعلن مستشارها أولاف شولتس دعوة لحرية نقل البضائع بين دول البلطيق -السوفيتية السابقة- والمنتمية حاليا للاتحاد الأوروبي، وبين روسيا، دون النظر كثيرا إلى الموقف الأمريكي المتشدد والمدعوم من بريطانيا. فهذه الأخيرة لم تختلف يوما في رؤيتها لأزمة أوكرانيا مع الولايات المتحدة، كما أنها تستند في موقفها المتشدد حيال الصين من جهة "حقوق الإنسان" وموقفها تجاه روسيا من ناحية ثأر مع بوتين مرتبط بعلميات اغتيال تتهم لندن موسكو بالوقوف وراءها على أراضيها.
في الواقع، الأسئلة كثيرة تطرح على صعيد مستوى العلاقة الراهنة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. بالطبع لا تزال استراتيجية وستبقى كذلك لعقود طويلة، إلا أنها لم تعد حقا متماسكة كما كانت في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن لا بد من الإشارة هنا، إلى أن واشنطن التي تسعى للاستفادة ما أمكن من الوضعية الأوروبية الراهنة خصوصا على الصعيد الاستراتيجي، تعرف تماما مدى أهميتها بالنسبة لعواصم الاتحاد على الجانب العسكري، وهذا في حد ذاته رابط لا يمكن أن يتضعضع بسهولة، خصوصا في ظل المواجهة العسكرية الخطيرة مع موسكو.
غير أنه في النهاية يبقى هناك تيار متساعد القوة على الجانب الأوروبي، يعتقد بضرورة وجود استقلالية أوروبية ما عن الجانب الأمريكي، لدعم التنافس الأوروآسيوي في المرحلة اللاحقة، الذي تتصدره الصين من جانب آسيا. وهذه الاستقلالية المنشودة تحظى في الواقع بدعم أوروبي واسع، خصوصا أن كلا من فرنسا وألمانيا تعملان من أجلها، وإن بخطوات بطيئة تأخذ في الاعتبار المصالح الأوروبية التاريخية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة.

إنشرها