البنوك .. التقييد أم الفائدة؟

هناك سؤال لا ينفك يتكرر: هل الأداة الرئيسة الأفضل لمواجهة التضخم هي السياسات التقييدية والضوابط الإشرافية المباشرة على الائتمان أم مجرد الاعتماد على سياسات تغيير معدل الخصم "سعر الفائدة"؟
هناك من يعد أن تغيير معدلات الخصم من الأدوات الرئيسة لتقييد الائتمان، لكن تقريرا نشرته "الاقتصادية" أخيرا يلقي الضوء بشكل واضح على الاختلاف الدقيق بينهما من خلال استعراض التجربة الأوروبية، فالاتحاد الأوروبي الذي يواجه معدلات التضخم نفسها التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي يتعامل مع أسعار الفائدة بطريقة أكثر حزما، فعلى الرغم من أن التضخم قد وصل إلى معدلات كبيرة في الأشهر الماضية متجاوزا حاجز 10 في المائة، ورغم أن ارتفاع الأسعار قد بدأت مؤشراته في الظهور منذ مطلع 2021 إلا أن المركزي الأوروبي لم يتخذ قراراته الواضحة بشأن سعر الفائدة في إطار السيطرة على التضخم إلا في تموز (يوليو) الماضي، مع ذلك لم يتجاوز معدل الفائدة الحالي 2 في المائة، في حين وصل سعر الفائدة الأمريكية إلى 4 في المائة.
ويشير تقرير "الاقتصادية" إلى أن لدى البنوك الأوروبية الكبيرة رأسمال فائضا يزيد على 500 مليار يورو، بما يمثل 43 في المائة من القيمة السوقية بالنسبة إلى البنوك المدرجة. ولفهم هذا السلوك فإن عديدا من المحللين يرون أن عصرنا هذا يشبه إلى حد بعيد سبعينيات القرن الماضي، مع الانكماش والركود وصدمات الطاقة وما إلى ذلك.
وبالعودة إلى القرارات التي كانت في سبعينيات القرن الماضي نجد الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا قد اعتمدت على تقييد الائتمان من خلال الإشراف المباشر عليه، وتحييد قرارات البنوك، وذلك لأن النموذج الأوروبي على خلاف النموذج الأمريكي يرى أن مجرد الاعتماد على سياسات كمية تعتمد على تعديل معدلات الفائدة دون توجيه حكومي للائتمان نفسه تجلب معها سوء تخصيص رؤوس الأموال، ففرضت فرنسا لأول مرة قيودا نوعية على الائتمان ساعدت على إخبار البنوك بالقطاعات التي تستحق الأولوية، وبالتالي كان معدل الخصم في فرنسا هو أحد وسائل التحكم في الائتمان، ولم يكن أبدا هو الحل الرئيس. 
لقد كانت السياسة الفرنسية في ذلك الوقت تعد تغيير معدل الخصم مهما بشكل أساسي لإحداث "تأثير نفسي" وبذلك تم عده أداة "نوعية"، على عكس الرقابة المباشرة على الائتمان التي كان يتعين على البنوك من خلالها أن تعلن كل شهر مقدار الائتمان الذي منحته لكل قطاع، وكان يتم فرض عقوبات على البنوك التي لم تعلن عن مبلغ الائتمان أو قدمت أرقاما كاذبة.
الفلسفة التي تقوم عليها هذه الإجراءات تعتمد على أن البنوك القوية تصنع اقتصادا قويا، واليوم تبدو الصورة متطابقة فلا يزال الأوروبي يعد تأثير معدل الفائدة نفسيا أكثر منه قيمة كمية تعيد توجيه القرار الائتماني، ولهذا ما يؤيده وفقا للتقرير، ففي بداية أزمة كوفيد - 19 فرض البنك المركزي الأوروبي حظرا شاملا على توزيعات الأرباح، مهما كانت قوة الميزانية العمومية للبنك. وعلى أساس أن البنوك تعمل من أجل المصلحة العامة وليس من أجل مصلحتها تم ضمان نسبة كبيرة من القروض الجديدة من قبل الحكومات من أجل أن يتم تحويل الأموال إلى كيانات شبه حكومية، وبذلك تم توجيه الإقراض المصرفي إلى بعض القطاعات المحددة، بناء على اعتبارات ليست مالية بالكامل.
أخيرا، قررت بعض الدول "مثل إسبانيا والتشيك" فرض "ضريبة مصرفية مفاجئة" لتعويض تأثير السياسات النقدية الجديدة.
لهذا يبدو السؤال مختلفا نوعا ما بشأن آليات مواجهة التضخم، فلم يعد يأخذ شكل: ما سعر الفائدة الأنسب؟ بل هل البنوك حرة في اتخاذ قرارات الائتمان أم ليست حرة في ذلك؟
هنا تجدر الإشارة إلى تقييم أسعار البنوك بأقل من قيمتها، فالبنوك الأوروبية بمتوسط تقييم يبلغ 0.6 في المائة من قيمتها الدفترية، فرغم تعديلات سعر الفائدة بعد أن كانت سلبية مع توقعات بأن تحقق البنوك أرباحا أعلى فإن ذلك لم يحمل معه أخبارا سارة لحملة الأسهم، فهذه الفوائض لن تذهب في شكل توزيعات نقدية، فالحكومات تفرض اليوم على البنوك سياسات ائتمانية شديدة الصرامة مع تحديد أسقف للتوزيعات، وتحديد اتجاهات الائتمان لضمان التخصيص الأمثل لرؤوس الأموال، وهي بذلك تؤثر بشكل تدركه أو لا تدركه في تقييمات تلك البنوك في الأسواق، وبهذا فإن الهروب من سوء التخصيص الذي قد ينشأ من الائتمان قد يعود بسوء تخصيص آخر في أسواق المال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي