Author

الجامعات والابتكار .. استثمارات واعدة

|

*أستاذ وباحث في الهندسة والأنظمة الابتكارية

تطرقت في مقال سابق إلى الأبعاد الاستراتيجية المهمة التي تؤثر وبشكل كبير وملموس في اقتصادات الدول ومجتمعاتها وقواتها الدفاعية بمختلف فروعها، وأشرت إلى بعض الأبحاث العلمية الفاعلة التي لها آثار ونتائج وإمكانات بارزة وحقيقية، وتحدثت عن سبل تطبيقها والاستفاده منها كابتكارات تقنية نوعية، تهدف إلى رفاهية الإنسان وخدمته في جميع احتياجاته، وأن ذلك ينطلق من مبدأ التعليم والتعلم بجميع مراحله وتهيئة البيئة التعليمية المناسبة لتلك الأبحاث والابتكارات الفعلية، والعمل على دعمها وتمكينها واستدامتها، وأن يكون ذلك من خلال المراكز البحثية والهيئات والجامعات وغيرها من الجهات المعنية. وفي مقال اليوم، سأتحدث عن مثال رائع بنى استراتيجية واعدة ونموذجا للاستثمار في الابتكار، من خلال هندسته للعملية التعليمية وجعلها تتكيف وتتواكب وتتلاءم مع الثورة التكنولوجية والتحول الرقمي والتقني الذي نشاهده في عالم اليوم، واستطاع أن يحقق بذلك إنجازات استثمارية حقيقية واعدة في هذا المسار. حديثنا اليوم عن الابتكار في جامعة الأمير سلطان.
تعد جامعة الأمير سلطان أول جامعة خاصة غير ربحية في المملكة أسست في 1998، وصنفت كواحدة من أفضل عشر جامعات أهلية في المنطقة العربية، حسب تصنيف كواكاريلي سيموندس العالمي للجامعات QS لـ2018، وذلك من خلال وضعها خططا استراتيجية إبداعية مدروسة وممنهجة، بدأت منذ المراحل الأولى للجامعة، حيث وضعت خطة للتأسيس تشمل عدة إجراءات تهدف إلى تعزيز البنية التحتية للجامعة، ثم وضعت خطة للتطوير التي تتضمن عددا من المحاور والأهداف للوصول إلى الريادة، ثم تلتها الخطة الاستراتيجية للاستدامة التي تعتمد على البحث والتطوير والابتكار لتحقيق هدف التمكين والأفضلية والأسبقية، وعملت الجامعة على تنفيذ هذه الخطط بإدارة فاعلة، بدءا من استقطاب الكفاءات الأكاديمية المرموقة والعمل على تهيئة البيئة البحثية المناسبة لجميع أعضاء الكادر الأكاديمي وتشجيعهم على البحث والتطوير والابتكار، من خلال مبادرات ومناشط خصصت لذلك، وليس ذلك فقط وإنما يتم العمل على استثمار تلك المنتجات الابتكارية النوعية مع عرضها وتسويقها للمستثمرين وأصحاب المصلحة، والتأكد من أن تلك المبادرات تتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030 لبناء اقتصاد مستدام مبني على البحث والتطوير والابتكار.
ومن خلال تعاوني مع الجامعة أخيرا، وتحديدا مع كلية علوم الحاسب وأنظمة المعلومات، أتيحت لي فرصة الاطلاع أكثر على أثر تلك الخطط في المسيرة التعليمية والبحثية التطويرية التي تسعى الجامعة من خلالها إلى أن تكون الأفضل، وخروجها بمنظومة ومركز للابتكار المتطور لافت للنظر، فهناك عديد من المجموعات البحثية، وعديد من المراكز والمختبرات ذات التقنيات العالية، مثل معمل النظم الآلية والحوسبة الناعمة ومعمل الأنظمة المستقلة الذكية الناشئة ومعمل الطاقة المتجددة ومعمل الطاقة والمياه والبيئة، ومعمل للروبوتات وإنترنت الأشياء الذي سيركز الحديث عنه في هذا السياق، حيث يضم نخبة من الباحثين الماهرين والمطورين والمبتكرين المبدعين، وهو مركز أبحاث متعدد التخصصات لديه عديد من الأنشطة البحثية والابتكارات النوعية المتنوعة، التي تشمل الذكاء الاصطناعي والطائرات دون طيار والروبوتات المتنقلة وإنترنت الأشياء وغيرها، ومن الأمثلة على مخرجات هذا المركز، أنه تم تطوير نظام متكامل تحت مسمى "وصل" ويتكون من طائرة دون طيار تم تطويرها بحساسات مدمجة تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي، ونظام اتصالات باستخدام شبكات 4Gـ 5G، وبرامج وأنظمة إدارة الأسطول السحابي، وتطبيق للهاتف المحمول ومنصة، لنقل وتوصيل الطرود بشكل آلي، كما تم تطوير وابتكار نظام لإدارة أسطول من الروبوتات الآلية ذاتية التحكم، بمسمى روبوفليت، يستخدم كذلك في عمليات النقل والتوصيل، حيث تم تجهيز الروبوتات بحساسات تضمن عدم الاصطدام وتجنب الحواجز المعيقة وتضمن السلامة في أماكن استخدامها، ومثل هذه التقنيات ستحدث نقلة نوعية في عملية أتمتة عمليات النقل والتوصيل مستقبلا، حيث تشير التقديرات الإحصائية إلى أن القيمة السوقية بلغت أكثر من 50 مليار دولار خلال 2020، ويقدر أن تصل إلى 150 مليار دولار خلال 2030، ومن الأمثلة كذلك تطوير نظام متكامل باستخدام الطائرات دون طيار لكشف وتصنيف وتحديد أماكن الأضرار على الطرق بدقة عالية جدا، كما تم ابتكار نظام بمسمى عيون يقوم بعملية الاكتشاف والمراقبة والتتبع باستخدام الحساسات الإلكترونية وأنظمة الذكاء الاصطناعي وقواعد البيانات، سواء كان للبشر عن طريق التعرف على صور الوجوه أو للمركبات بمختلف أنواعها، حيث يتم كشفها وتتبعها ومراقبتها بشكل لحظي، وتم أيضا تطوير نظام التحليل الآلي لأنظمة حركات المرور باستخدام الطائرات دون طيار وأنظمة التحليل الدقيقة الخاصة بالذكاء الاصطناعي، وتطوير خوارزميات عالية الدقة خاصة في مجال المعالجة سواء للصور أو الفيديو، وغيرها من الأنظمة والتطبيقات التي تم تطويرها وتلامس الاحتياجات الفعلية للمجتمع، التي جعل من هذه الجامعة نموذجا يحتذى به على مستوى الجامعات السعودية وفوزها بعديد من الجوائز مثل فوزها بالمركز الأول في تحدي جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية Challenge KAUST، وجائزة قيادة الذكاء الاصطناعي في المعرض السعودي الدولي للذكاء الاصطناعي 2022 وغيرها. يوجد في السعودية كثير من القامات البحثية العلمية المتميزة في عديد من الجامعات والمراكز الوطنية البحثية وغيرها، ولديهم عديد من الابتكارات والاختراعات المحكمة داخليا وخارجيا، وذكرت ذلك في مقال سابق. إن بناء العلاقات الاستراتيجية بين جميع الجهات ذات العلاقة، مثل هذه الجامعات والمراكز البحثية وشركات التصنيع والمستثمرين، سيؤدي - بلا شك - إلى بناء قاعدة ابتكارية وتقنية وطنية مميزة لدينا. لذا أرى أن من المناسب أن تتبنى جامعة الأمير سلطان هذا الدور في بناء ربط تكاملي بين الجهات ذات العلاقة، عن طريق إنشاء مركز ابتكار Innovation Hub وتطوير منصة إلكترونية عبر الشبكة العنكبوتية تجمع هذه الجهات معا، بحيث تتم فهرسة الأبحاث والمبادرات الخاصة بالابتكارات وجعلها مرجعا موحدا يسهل الوصول إليه من جميع فئات المجتمع، وكذلك رصد مستويات الإنجاز من قبل صاحب القرار، ما يرفع مستوى الكفاءة ويقلل الوقت والجهد ويمنع تكرار المبادرات، وبذلك يتم ترشيد النفقات وضخها في موضعها المناسب، وذلك سيكون له دور أساسي بارز في تسريع وتطوير وصناعة الابتكار وتوطين كثير من المنظومات محليا، ولأهمية هذا الموضوع سيتم استعراض ومناقشة مساهمات الجامعات الأخرى ودورها في الابتكار والريادة، في مقالات مقبلة بإذن الله.

إنشرها