Author

لماذا يشهد النشاط العقاري ركودا؟ وماذا بعده؟ «1 من 2»

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

سبق الحديث خلال الأشهر القليلة الماضية عن الركود أو الانكماش العقاري، الذي يشهده أغلب أسواق العقار حول العالم، الناتج بالدرجة الأولى من الصدمات التي بدأت البنوك المركزية في صنعها للاقتصادات والأسواق بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بهدف كبح التضخم الأعلى ارتفاعا خلال أكثر من أربعة عقود زمنية مضت في أغلب الدول. محليا، على الرغم من أن التضخم مقارنة بمثيله خارجيا ما زال في مستويات متدنية، وخلال تشرين الأول (أكتوبر) الماضي شهد تباطؤا إلى 3.0 في المائة، إلا أنه لارتباط الريال بالدولار الأمريكي قام البنك المركزي السعودي برفع الفائدة على الريال بالزيادات نفسها التي طرأت على الدولار، حتى وصل معدل الفائدة بين البنوك المحلية "ثلاثة أشهر"، خلال الأسبوع الماضي، إلى مستويات قريبة من 6.0 في المائة، الذي يعد المعدل الأعلى خلال 21.7 عام مضى "منذ آذار (مارس) 2001".
نتجت عن تلك السياسات النقدية المتشددة صدمات متكررة على جميع الأسواق المالية حول العالم بصورة فورية، وبدأت تنتقل إلى الأسواق العقارية بدرجة أبطأ بدءا من الربع الثاني من العام الجاري، ووفقا لبنك التسويات الدولية BIS يتوقع أن تأخذ في الاتساع والشمول التدريجي ربعا بعد ربع، وأن تتأكد آثار الارتفاعات التي طرأت على معدلات الفائدة، واستقرارها عند تلك المستويات الأكثر ارتفاعا خلال أكثر من 20 عاما مضت طوال الفترة 2023 ـ 2024، وأن تنتقل الأسواق العقارية العالمية من مرحلة الانكماش الراهنة إلى مرحلة تصحيح الأسعار خلال العامين المقبلين، كجزء من الأطراف، متوقع من جانب أول أن تدفع ثمن كبح التضخم العالمي نتيجة السياسات النقدية المتشددة. من جانب آخر، تدفع ثمن دخول الاقتصاد العالمي في موجة ركود وتباطؤ في معدلات النمو، التي تأثرت بالاضطرابات الجيوسياسية في آسيا وأوروبا، إضافة إلى تقلبات أسعار الطاقة والتغيرات التي طرأت على سياسات البنوك المركزية منذ نهاية الربع الأول من العام الجاري حتى تاريخه.
دخلت الأسواق العقارية عالميا ومحليا منذ عدة أشهر في مرحلة انكماش الطلب، نتيجة ارتفاع تكلفة الرهون العقارية إلى مستويات غير مسبوقة في منظور أكثر من عقدين من الزمن، ما أدى إلى إحداث مزيد من الضغوط على الأسعار التي كانت قد شهدت موجات ارتفاع قياسية خلال 2020 ـ 2022، ومع الزيادة المتوقعة في فترة انكماش الطلب، لتوقعات استمرار السياسات النقدية المتشددة من البنوك المركزية طوال الفترة 2023 ـ 2024، ستبدأ الأسواق العقارية في الانتقال من مرحلة انكماش الطلب إلى مرحلة تصحيح الأسعار المتضخمة في الأصل، وهو الأمر الإيجابي بكل تأكيد، وأحد مستهدفات السياسات النقدية المتشددة من البنوك المركزية، لما تمثله أسعار العقارات والمساكن من ثقل نسبي ضمن البنود المشكلة للأرقام القياسية لمستويات الأسعار "التضخم"، وتتفاوت الأسواق العقارية حول العالم في هذا الشأن، حسب المعطيات الاقتصادية والمالية الكلية في كل دولة من دول العالم.
محليا، توشك السوق العقارية أن تكمل بعد أسبوعين من تاريخه شهرها الخامس على التوالي من الركود، الذي كانت قد بدأته مع مطلع تموز (يوليو) الماضي من هذا العام، وكما سبق الإشارة إليه في عديد من التقارير، فقد جاء التأثير الأكبر على السوق العقارية المحلية من الركود الذي شهده القطاع السكني، الذي تأثر بدوره بعديد من التغيرات في العوامل الأساسية الأكثر تأثيرا في أدائه، كان من أبرزها التباطؤ المستمر في مستويات القروض العقارية الممنوحة للأفراد، التي سجلت تراجعا خلال التسعة أشهر الأولى من العام الجاري وصلت نسبته إلى 16.4 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وتزامنه مع الارتفاع المطرد لمعدل الفائدة على الاقتراض البنكي، الذي اقترب حتى الأسبوع الماضي من 6.0 في المائة "الأعلى منذ مارس 2001"، ما أضاف بدوره مزيدا من الضغوط عبر تكلفة الرهون العقارية على كاهل المستهلكين، ودفع الشركة السعودية لإعادة التمويل العقاري، إلى تمديد فترة سداد القروض العقارية للمواطنين إلى 30 عاما، لأجل تخفيف الضغوط الناتجة عن ارتفاع تكلفة الرهون العقارية.
جاءت هذه التطورات بعد أكثر من ثلاثة أعوام ازدهرت خلالها السوق بمعدلات قياسية، أسهم في تحققها بالدرجة الأولى ارتفاع ضخ القروض العقارية للأفراد بمعدلات غير مسبوقة، وصل صافي حجمها خلال كانون الثاني (يناير) 2019 ـ أيلول (سبتمبر) 2022 إلى نحو 0.5 تريليون ريال، وتزامن مع تدني معدلات الفائدة إلى أدنى مستوياتها تاريخيا، إضافة إلى توافر التحفيز الحكومي ممثلا في الدعم السكني المقدم للأفراد أثناء شراء المسكن الأول للأسرة، كل ذلك انعكس إيجابيا وبقوة على الأسعار السوقية لمختلف الأصول العقارية، واستمر نشاط السوق على تلك الوتيرة النشطة، حتى وصل إلى المرحلة الراهنة التي بدأت تختلف خلالها معدلات الفائدة بالارتفاع "تكلفة الرهون العقارية"، وانكماش قدرة الاقتراض للأفراد، مقابل مستويات عالية جدا للأسعار، لتدخل جميع تلك المتغيرات في صدام أفضى إلى ركود نشاط السوق عموما، والقطاع السكني خصوصا. مع استمرار فترة الركود لأشهر مقبلة، وفي ظل بقاء معدلات الفائدة عند مستوياتها المرتفعة الراهنة لعامين مقبلين على أقل تقدير، وتزامنا مع زيادة ضخ عشرات الآلاف من الوحدات السكنية، إضافة إلى اتساع نطاق تنفيذ نظام الرسوم على الأراضي البيضاء وتقدم مراحله، يمكن وضع تصورات عامة تقديرية لما سيكون عليه المشهد العقاري خلال العامين المقبلين، بمشيئة الله تعالى، وهو الجانب الذي سيتم التوسع حوله في الجزء الثاني من هذا المقال... يتبع.

إنشرها