Author

موسم الهجرة من الصين

|
أستاذ جامعي ـ السويد

هناك ميزة اقتصادية للدول الغربية الصناعية تتفوق فيها الآن ـ وربما إلى حين ـ على أغلب دول العالم الأخرى. تتباهى الدول الغربية بشركاتها الكبيرة والصغيرة. وهذا تباه في محله.
الشركات الغربية ورغم ما عليها من مآخذ لدى معارضي الرأسمالية من حيث التركيز على الربح والمصالح والعمل على تحقيق منافع جيوسياسية ونشر أفكار أيديولوجية محددة، تجلب معها الرخاء حيثما حلت.
التنمية الشاملة والتطور الصناعي والتكنولوجي في الغرب قام ولا يزال على أكتاف هذه الشركات التي لولاها لما كان الغرب يعيش البحبوحة والرخاء في العقود السبعة الماضية.
وعندما تقاطرت الشركات الغربية صوب الصين قبل نحو ثلاثة عقود ونيف، أحدثت هذه الشركات طفرة كبيرة في الاقتصاد الصيني الذي انتقل من خانة العالم الثالث إلى ثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.
وكانت الشركات الغربية تتنافس لفتح فروع لها في الصين أو الانتقال إليها لسعة السوق الصينية، وكذلك لتوافر عمالة رخيصة تملك ناصية اكتساب المعرفة والتقليد بسرعة مذهلة.
لقد كانت الهجرة صوب الصين هجرة لم يشهد لها التاريخ مثيلا. أغوت الصين الشركات الغربية لكي تهاجر إليها ومنحتها فرصا استثمارية مربحة يسيل لعاب أي رأسمال لها.
هذه الهجرة الكبيرة أشبعها علماء الاقتصاد درسا وتمحيصا وصرنا نتحدث عن اقتصادات "أوف شور" وظهرت عدة دراسات أكاديمية تنظر إلى النشاط الاقتصادي الذي يتخذ من منطقة جغرافية خارج البلد الأصلي ملاذا.
وأهمها في رأي بحث سطرته أنامل كل من مانكيو وسواجيل في 2004 في مجلة Journal of Monetary Economics التي تعنى بالعلوم الاقتصادية الخاصة بالسياسات النقدية.
لقد وضع العالمان مانكيو وسواجيل الأسس النظرية والتطبيقية لهجرة الأموال والشركات خارج أوطانها، أو عند استعانة الدول والشركات بمصادر خارجية للتمويل الذاتي والنمو.
وتميل كتابات مانكيو وسواجيل، وسواهما من المؤلفات الواسعة والعديدة حول الموضوع، نحو صوابية هجرة الأموال والشركات خارج الأوطان وأن وجودها خارج حدود دولها يجلب الخير الوفير ربما أكثر من بقائها في أوطانها.
لكن ما حدث في الصين كان عكس التوقعات. صحيح أن الشركات الغربية بصورة عامة اغتنت من هجرتها إلى الصين، لكن الرابح الأكبر كانت الصين ذاتها.
عندما كانت الشركات الغربية تكدس الأرباح من الهجرة إلى الصين، والعلماء والباحثون الغربيون يقدمون نظرياتهم وأبحاثهم وتطبيقاتهم التي تقيم العملية بصورة إيجابية لا بل تغدق المديح عليها، كانت الصين تكتسب الخبرة وتوطن المعرفة وتمضي بسرعة لتملك ناصية الصناعة والتكنولوجيا الغربية في شتى مضاميرها.
في غضون عقود ثلاثة تحولت الصين من "مقلد" للصناعة الغربية إلى "مصمم ومبتكر" لصناعات تكنولوجية فائقة التطور سرعان ما باتت تنافس مثيلاتها الغربية وفي مناح تبزها. حتى قبل ثلاثة أعوام، وحسب الاستبيانات التي نشرتها الصحافة الغربية، كانت الشركات الغربية تؤكد أن الخروج من الصين ليس ضمن تطلعاتها وأن الهجرة المعاكسة ليست ضمن خططها.
لكن في الآونة الأخيرة صرنا نقرأ عن رغبة أغلب الشركات الغربية في الهجرة من الصين، ليس إلى دولها الأصلية بل صوب ما باتت تطلق عليه بالدول الخارجية الصديقة.
ونشهد حاليا تحولا في البوصلة الأكاديمية والبحثية من offshoring صوب friendshoring أي بدلا من التموضع في دولة لم تعد صديقة وموائمة للرأسمالية الغربية مثل الصين، لنتموضع في دول ذي بيئة صديقة.
والقياس هو القرب والبعد من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. والصين، كما تشير أغلب الدلائل، لم تعد ذات بيئة صديقة، بمعنى أيضا أنها لم تعد في حاجة مثل السابق إلى هذه الشركات أو إلى أغلبها، لأنها أصبحت دولة لها إمكانية التصميم والابتكار وليس التقليد فحسب، وأضحت منافسا تحسب الدول الغربية له ألف حساب.
وهكذا نقرأ اليوم سلسلة مقالات في أمهات الصحف والمجلات الأمريكية والدول الغربية الأخرى حول أن موسم الهجرة من الصين قد بدأ، وأن الشركات لم تغير البوصلة بل الوجهة أيضا بحثا عن أوطان جديدة، إن في الهند أو دول أخرى في جنوب شرق آسيا. وهناك منافسة لا بل صراع بين هذه الدول لفرش الأرض بالسجاد والورد لهذه الشركات لأنها ترى أن وجودها في أراضيها سيجلب الخير الوفير. بيد أنني لا أظن أن الخير الوفير الذي جنته الصين من وجود هذه الشركات ستقطفه أي دولة أخرى.
ما ربحته الصين في العقود الثلاثة الماضية كان مهولا بكل القياسات، بفضل السياسات الحكيمة لاستقبال رأس المال الغربي، بنت الصين اقتصادا في طريقة لسيادة العالم، ولم تتنازل قيد مثقال ذرة فكريا أو جيوسياسيا أو أيديولوجيا أو ثقافيا. هل سيكرر التاريخ والتجربة نتائج ومآل هجرة الشركات الغربية إلى الصين؟ لا أظن، وإن كان بعض الظن إثما.

إنشرها