اقتصاد الفضاء .. حوكمة وعوائد

شهد اقتصاد الفضاء في العالم تطورا مذهلا خلال العقود الأخيرة، وتتنافس دول العالم فيما بينها لحجز مكانها في هذا القطاع، وزيادة اندماج الفضاء في المجتمع والاقتصاد المحلي. وتعرف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD اقتصاد الفضاء بأنه: أنشطة استخدام الموارد التي تصنع قيمة وفوائد للبشر، في سياق استكشاف الفضاء والبحث فيه وفهمه وإدارته واستخدامه، وبما يمكن من تطوير خدمات جديدة تتيح بدورها تطبيقات جديدة، في قطاعات مثل الأرصاد الجوية والطاقة والاتصالات والتأمين والنقل والبحرية والطيران والتنمية الحضرية، ما يؤدي إلى فوائد اقتصادية ومجتمعية إضافية.
وبهذا التعريف، فإن قطاع الفضاء لا يعد مستقلا في حد ذاته فحسب، بل عاملا مساعدا في نمو القطاعات الأخرى. وتشير تقارير وكالة الفضاء الأوروبية إلى أن صناعة الفضاء يمكن أن تبلغ قيمتها تريليون دولار بحلول 2040، كما أصبحت تكنولوجيا الفضاء منصة أساسية خلف عديد من الخدمات والمنتجات التي أصبح لا غنى للناس عنها، في وقت لعبت أدوارا مهمة في الآونة الأخيرة وأثبتت جدارتها خلال الجائحة، فأنظمة الأقمار الاصطناعية والاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية منحتنا فرصة للتواصل والحياة، ووصول الإمدادات رغم الحجر العام الذي كان مستحيلا أن يحدث بمثل هذه الصورة في أزمان سابقة. ووفقا لدراسة حديثة، فقد وصل نصيب ميزانيات الفضاء إلى ما يقدر بنحو 75 مليار دولار في 2017، ويعد أكبر مبلغ لها منذ عصر أبولو في الستينيات، ويقدر تقرير صدر عن مؤسسة الفضاء لعام 2022 أن اقتصاد الفضاء بلغ 469 مليار دولار في 2021 - بزيادة قدرها 9 في المائة على العام السابق، وأن هناك أكثر من ألف مركبة فضائية دخلت المدار في الأشهر الستة الأولى من هذا العام - أكثر مما تم إطلاقه أول 52 عاما من استكشاف الفضاء "1957 - 2009". وإذا كانت الولايات المتحدة والصين هما الأكثر استثمارا، فقد رصد تقرير مؤسسة الفضاء ارتفاعا 19 في المائة في الإنفاق الحكومي الإجمالي على برامج الفضاء العسكرية والمدنية 2021، رفعت الهند الإنفاق 36 في المائة، واستثمرت الصين 23 في المائة، وضخت الولايات المتحدة 18 في المائة في مشاريع الفضاء، بينما هناك أكثر من 224 مليار دولار تم توليدها من المنتجات والخدمات التي تقدمها شركات الفضاء، كما أصبحت الابتكارات الواعدة وأنظمة تكنولوجيا الفضاء الجديدة تجذب كثيرا من رأس المال العام والخاص، ومن بين أهم المنتجات الجديدة الجاذبة تلك الأقمار الاصطناعية الصغيرة ومتناهية الصغر، والقاذفات الصغيرة، والنطاق العريض وإنترنت الأشياء من الفضاء، ورحلات الفضاء للأغراض التجارية. وبينما تؤثر الرقمنة بشكل متزايد في الإنسان، فإنها تجد في قطاع الفضاء أرضية مشتركة بأكمله، وبينما تسهم الرقمنة في إيجاد فرص جديدة للعمل، فإن الوصول إلى الأمان الاقتصادي بشأن سلاسل الإمداد في الجانب الرقمي يتطلب التكامل الرأسي مع منتجات قطاع الفضاء. ووفقا لكل هذا، فمن المتوقع أن ينمو الاقتصاد الرقمي بقدر ما يسمح به النمو في اقتصاد الفضاء، وينمو هذا النوع من الاقتصاد بقدر الطلب على المنتجات الرقمية، وهذا التكامل يتطلب نظرة استراتيجية لكلا القطاعين، لذلك تأتي موافقة مجلس الوزراء برئاسة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، أخيرا، على إنشاء المجلس الأعلى للفضاء برئاسة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء.
وكما نعلم، فإن السعودية تتمتع بسجل مشرف مع اقتصاد الفضاء، وجاء توقيع اتفاقية "أرتميس" بين السعودية ووكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، للانضمام إلى التحالف الدولي في مجال الاستكشاف المدني واستخدام القمر والمريخ والمذنبات والكويكبات للأغراض السلمية، التي تتضمن أيضا الانضمام إلى التحالف العالمي لعودة الإنسان مجددا إلى القمة، تتويجا لمسار طويل بدأ من خلال معهد بحوث الفضاء في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، الذي عمل على عدة مشاريع ضخمة مع شركاء من دول العالم المتقدم في هذا المجال، فقد تم إطلاق 17 قمرا اصطناعيا بين 2000 و2021، كان أول تلك الأقمار هما سات 1 وسات 1ب، وذلك لأغراض إرسال وتخزين البيانات، ثم توالت الإرساليات من بينها إطلاق منظومة أقمار اصطناعية "كومسات" 2007 التي بلغت خمسة أقمار اصطناعية تهدف إلى تتبع السفن التجارية ومعالجة بياناتها، كما تم في 2014 إطلاق قمر سات 4 لإجراء تجارب علمية فيزيائية على الأشعة فوق البنفسجية بالتعاون مع جامعة ستانفورد الأمريكية ووكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، وفي 2018 تم التعاون مع وكالة الفضاء الصينية لإطلاق القمر الاصطناعي شانج آي 4، وذلك في مهمة نادرة لاستكشاف الجانب غير المرئي من القمر. وفي 2021 تم بنجاح إطلاق القمرين الاصطناعيين شاهين سات 17 التابعين لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، والقمر CubeSat التابع لجامعة الملك سعود، وذلك من قاعدة بايكونور في كازاخستان على متن الصاروخ الروسي Soyouz2. وفي 2018 أنشئت الهيئة السعودية للفضاء، التي وضعت مجموعة من الأهداف الأولية التي تخدم مصالح الأمن الوطني وتحميه من المخاطر المتعلقة بالفضاء وتشجع النمو والتقدم. ومع هذا السجل الحافل، فإن إنشاء المجلس الأعلى للفضاء برئاسة ولي العهد، يشكل حجر الزاوية في حوكمة هذا القطاع، وسيقود المملكة نحو تحول جذري في هذا القطاع بما يحقق التكامل مع كل المشاريع الاستراتيجية، وعلى رأسها مشاريع نيوم.
فتنظيم القطاع وحوكمته يتطلبان وجود مثل هذا المجلس الأعلى، حتى تتكامل القطاعات فيما بينها كما أشرنا، خاصة مع حصول المملكة على المستوى الخامس في النضج التنظيمي الرقمي ووصول حجم سوق التقنية إلى 40 مليار دولار مع الاتجاه إلى مضاعفته، فالمجلس الأعلى ومن خلال استراتيجيات الفضاء سيكون محل إلهام وتحفيز الشباب والعلماء، خاصة مع إطلاق برنامج "رواد الفضاء" الذي تضمن انطلاق دفعتين من برنامج "الابتعاث" في أفضل 30 جامعة وإعلان الرحلة الأولى في 2023.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي