تداول الكربون .. سوق سعودية
امتدادا لجهود ومبادرات المملكة العربية السعودية في سبيل الوفاء بالتزاماتها تجاه تخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والحد من تراكمات غازات الانبعاث الحراري في الطبقات العليا من الغلاف الجوي، يأتي إنشاء السوق المالية المعنية بتداول أرصدة الائتمان الكربوني وسيلة داعمة لجهود الجهات الراغبة في التحكم في الانبعاثات الغازية الخاصة بها. وهذه المبادرة تأتي من جانب صندوق الاستثمارات العامة للمساعدة على دعم جهود الرياض في مجال السيطرة على التغيرات المناخية وتحسين جودة الحياة التي بالمناسبة بدأت تسجل فيها المملكة تقدما ملحوظا على صعيد مؤشر المستقبل الأخضر لعام 2022 وعدد من محاوره، شملت انبعاثات الكربون وتحولات الطاقة وإنتاج الطاقة المتجددة والمجتمع الأخضر وسياسات المناخ.
يأتي إنشاء السوق الطوعية للكربون في سياق توجه الصندوق نحو التمويل الأخضر، وهو الإطار العام الذي يهدف إلى دعم الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات وتشجيع ما يعرف بالاستثمار المستدام، ودعم طموحات السعودية للوصول إلى مرحلة الحياد الكربوني قبل عام 2060، واستقطاب الاستثمارات المناسبة من خلال طرح السندات الخضراء. أخيرا تضمن الإطار الذي أطلقه الصندوق إنشاء سوق لتداول شهادات الائتمان الكربوني.
اهتمام المملكة بالسيطرة على الانبعاثات الكربونية يأتي نتيجة التزامها باتفاقية باريس للمناخ، وتماشيا مع مبادرة خادم الحرمين الشريفين للطاقة المتجددة وتحقيق التوازن في مزيج مصادر الطاقة المحلية، إلى جانب الجهود المتعلقة برفع كفاءة الطاقة من خلال نشاطات المركز السعودي لكفاءة الطاقة الذي أنشئ عام 2010. وفي الوقت نفسه تعمل المملكة على استدامة الطلب على المواد الهيدروكربونية من خلال برامج خاصة بذلك، واعتماد أساليب جديدة للسيطرة على الكربون، كمفهوم الاقتصاد الدائري للكربون، الذي أقرته مجموعة دول العشرين.
وتكتمل هذه الجهود بالأعمال الأخرى الصديقة للبيئة، كمبادرات التشجير لأكثر من 450 مليون شجرة وإعادة تأهيل ثمانية ملايين هكتار من الأراضي وتخصيص أراض محمية جديدة، إضافة إلى الخطط المتعلقة بتحويل مدينة الرياض إلى مدينة عالمية مستدامة، وتلك المتعلقة بتطوير منطقة نيوم.
النهج المتبع للسيطرة على الانبعاثات الكربونية يعمل بأسلوب تحديد سقوف للانبعاثات الخاصة بأي جهة تنتج عنها انبعاثات كربونية، حيث لا يسمح لها بتجاوز هذا السقف، وإن اضطرت الجهة إلى تجاوزه فعليها شراء شهادات تعويضية من جهات لديها فائض من هذه الشهادات. لذا ظهرت هناك حاجة إلى إيجاد سوق مالية إلكترونية لتسهيل عملية تبادل تلك الشهادات، وهو ما قام به صندوق الاستثمارات العامة بالتعاون مع السوق المالية السعودية.
هناك أسواق كثيرة لتداول شهادات الكربون، معظمها خاص بمناطق جغرافية معينة تعمل وفق أساليب متفاوتة في مواصفاتها وسلامة شهاداتها المتداولة ومصداقيتها، وتعد الصين صاحبة أكبر سوق للكربون في العالم، بسبب حجم الاقتصاد الصيني ولكونه الملوث الأكبر في العالم. ويبلغ حجم سوق الكربون العالمية، الذي يشمل الأسواق الإلزامية والطوعية، بحسب بيانات "ريفيني تف" 851 مليار دولار في 2021، بارتفاع لأكثر من 164 في المائة عن 2020، إلا أن السوق الطوعية لا تزال صغيرة حيث تم تداول نحو مليار دولار فقط في 2021، وهي تقدر الآن بنحو ملياري دولار. وقد ارتفع متوسط سعر الطن الواحد من الكربون على مستوى العالم في 2021 إلى أربعة دولارات بينما كان 2.5 دولار للطن في 2020.
تكمن أهمية سوق الائتمان الكربونية التي تم إطلاقها الأسبوع الماضي في السعودية بتداول 1.4 مليون طن من الكربون في أنها سوقا للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتتم إدارتها من قبل أكبر سوق مالية في المنطقة، وتستقبل الشهادات المعترف بها دوليا، فبذلك يمكن للمستثمرين والجهات المهتمة الاستفادة منها بالطريقة التي تحقق أهدافهم. كما أن هذه السوق كأي سوق مالية أخرى من الممكن الاستفادة منها لأهداف المضاربة والاستثمار والتحوط، ومن المتوقع أن تشهد الأعوام المقبلة اهتماما متزايدا بهذه السوق لعدة أسباب أهمها أن سقوف الانبعاثات في نزول مستمر، ما يعني ارتفاع سعر شهادات الائتمان الكربوني.