الصين .. ما الجديد في مؤتمرها الـ 20؟
منذ رحيل مؤسس الصين الشيوعية المعلم ماو تسي تونج 1976، تولت قيادة الصين شخصيات كان قاسمها المشترك الإيمان بعقيدة ومبادئ الحزب الشيوعي الحاكم "أُسس في 1921". وإذا كان بعضهم قد وصف الزعيم الصيني الأسبق "دينج هسياو بينج"، برجل الصين القوي وعراب التغيير والانفتاح، ووصف الزعيم الآخر "جيانج زيمين"، بقائد الاستمرارية ومهندس النهضة الصناعية، فإن الزعيم الحالي "شي جين بينج" المتربع على عرش الدولة والحزب والجيش منذ انتخابه 2012 بز كل أسلافه ببروزه كأقوى زعيم للبلاد دون منازع منذ رحيل ماو.
كثيرون لم يتوقعوا أن يصعد الرجل بهذه السرعة الصاروخية إلى هرم السلطة، وأن يعزز قبضته عليها، وينجح في تغيير العرف المتعلق بفترة البقاء في السلطة لتصبح مفتوحة بدلا من فترتين فقط، كما حددها "دينج هسياو بينج" في الدستور، خشية تكرر ظاهرة ماو. لكن، في المقابل، كان هناك من قرأ جين بينج، مبكرا ورأى فيه شخصية ذكية متوثبة لها طموحات شخصية ووطنية غير محدودة.
ولئن تمثلت طموحاته الوطنية بتحويل الصين إلى قوة عالمية مهابة بين الأمم سياسيا واقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا، ما تجلى في مشروعه الأهم المسمى بـ"الحزام والطريق"، فضلا عن قيادته مبادرات إقليمية ودولية مختلفة وضخه استثمارات مليارية في إفريقيا وآسيا، فإن طموحاته الشخصية تمثلت في البقاء سيدا للصين دون منازع، ما تجلى في حرصه على التجديد لنفسه من خلال مؤتمرات الحزب الحاكم كل خمسة أعوام كي يهندس طموحاته الوطنية وفق أفكاره ورؤيته الخاصة، تلك الأفكار التي نجح 2018 في كتابتها كمواد في الدستور تحت عنوان "أفكار شي جين بينج حول اشتراكية ذات سمات صينية لعهد جديد"، علما بأنه لم يحظ بهذا الشرف من قبل سوى ماو. وفي المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي الصيني، الذي اختتم أعماله أخيرا، صدقت رؤية من توقع أن جين بينج جاء ليبقى طويلا، وأنه ليس كبقية أسلافه "زيمين و جنتاو مثلا".
لم يكن نجاحه في الوصول إلى مرتبة توازي مرتبة ماو، الذي كان سببا في اضطهاد والده خلال الثورة الثقافية في الستينيات مصادفة، وإنما حصيلة عمل دؤوب استثمر فيه ذكاءه وإجادته فنون الصبر والانتظار، من أجل إيجاد شرعية لنفسه يستطيع بها مواجهة منافسيه السياسيين من جهة، والسيطرة من جهة أخرى على القلعة العتيدة الحامية للحزب والدولة والنظام ممثلة بمؤسسة الجيش الأحمر. بعبارة أخرى، نجح جين بينج في تحقيق انتعاش اقتصادي كبير للأمة الصينية، وتصدى بقوة لمحاولات الجماعات الانفصالية في "شينجيانج" وهونج كونج المس بوحدة البلاد، ووسع نفوذ الصين ومكانتها بين الأمم بمبادرة الحزام والطريق، متخذا من دول آسيا الوسطى منصة لإطلاقها دون خشية من حساسية موسكو، وضرب بيد من حديد على أوجه الفساد ورموزه في المواقع المختلفة من خلال حملة سماها "النمور والذباب"، فحصد الشرعية اللازمة للبقاء طويلا على رأس هرم السلطة، خصوصا بعد أن مهد لذلك بإقدامه في 2015 على إعادة هيكلة الجيش عبر إلغاء أقسامه الرئيسة الأربعة واستبدالها بـ15 وكالة صغيرة خاضعة للجنة العسكرية المركزية للحزب الشيوعي التي يرأسها بنفسه.
في الأعوام الأخيرة صارت مؤتمرات الحزب الشيوعي الصيني تحظى باهتمام متزايد ومتابعة دقيقة من وسائل الإعلام العالمية، لا تقل عن متابعتها واهتمامها بالانتخابات الرئاسية الأمريكية مثلا. والسبب، بطبيعة الحال، هو الصعود الاقتصادي المذهل للصين وتنامي قوتها ونفوذها في منظومة الأمم. فهذه المؤتمرات عادة ما تحدد توجهات الصين المقبلة، وتكشف عن سياسات قادتها المستقبلية حيال القضايا الداخلية والخارجية. وفي مؤتمر هذا العام انتظر العالم سماع تقرير من جين بينج، يختلف عما قاله في المؤتمرين السابقين، خصوصا لما استجد من قضايا واستراتيجيات الصين حيالها، ولا سيما قضايا مثل: تصفير جائحة كورونا المنهكة للاقتصاد، ومسألتي تايوان وهونج كونج، والتحالف الصيني - الروسي، والصراع على النفوذ في آسيا الوسطى، والمخططات الأمريكية والغربية لتحجيم الصين إقليميا وعالميا، والحرب التجارية بين واشنطن وبكين.
لقد حفل بيان الأمين العام للحزب في مؤتمر هذا العام بالعبارات المعتادة حول السلام العالمي "والتنمية المشتركة" و"رفض التدخل في الشؤون الداخلية"، إلا أنه تضمن أيضا تأكيدات وتطلعات جديدة يبدو أنها فرضت نفسها من وحي الصراعات والاستقطابات العالمية الجديدة، ومن وحي الانتقادات الموجهة إلى بكين. من ذلك تأكيد جين بينج، أن بلاده ستلعب دورا أكثر حزما في تشكيل النظام الدولي، وفق رؤيتها، لا وفق قواعد الغرب، وأنها لن تسعى إلى الهيمنة أو التوسع، لكنها ستحمي كياناتها الموجودة خارج حدودها، وأن تداعيات كورونا لن تجعلها تنكفئ على نفسها اقتصاديا وتجاريا، وستواصل التعاون مع من يريد، وأن قضية تايوان تخص الصينيين وحدهم دون غيرهم، وأن بكين تدعم إعادة التوحيد السلمي، لكن دون التعهد بالتخلي عن استخدام القوة. إلى ذلك، لوحظ تركيزه على موضوع الأمن بدليل ورود مفردتي "الأمن" و"الأمان" أكثر من 70 مرة في بيانه السياسي - الحزبي، خصوصا في معرض حديثه عن مواصلة الصين تعزيز قدراتها العسكرية، والتنسيق بين الأمنين الخارجي والداخلي للبلاد.