أوروبا .. الملف الشائك والمزعج
حقيقة تطرح أسئلة عميقة وعديدة عن ديون الاتحاد الأوروبي، هذه الديون التي بدأت قصتها منذ 2009، ولا يوجد موضوع مقلق لمنظومة الاتحاد الأوروبي أكثر من قضية الديون، التي أصبحت ملفا مزعجا لكثير من دول القارة، ما جعل مسؤولي الاتحاد يعدون تكرارا ومرارا بمعالجتها.
إن أزمة الديون الأوروبية التي في الأغلب ما يشار إليها أيضا بأزمة منطقة اليورو أو أزمة الديون السيادية الأوروبية، هي أزمة ديون متعددة الأعوام تجري في الاتحاد الأوروبي منذ 13 عاما، وعديد من الدول الأعضاء في منطقة اليورو، "اليونان والبرتغال وأيرلندا وإسبانيا وقبرص"، لم تتمكن من تسديد ديونها الحكومية أو إعادة تمويلها، أو لإنقاذ البنوك المثقلة بالديون تحت إشرافها الوطني، دون وجود مساعدة من الأطراف الثلاثة مثل دول منطقة اليورو الأخرى، أو البنك المركزي الأوروبي، أو البنك وصندوق النقد الدوليين.
القضية ملف لا يستهان به في هذه القارة، ولا يمكن التقليل من الأثر الذي تتركه الديون السيادية في الدول الأوروبية "ولو نفسيا في بعض الدول". فهذه الديون تتراكم، وواصلت اختراقها سقفا تلو الآخر، تحت ضغوط الأزمات الاقتصادية التي تمر بها، ولا سيما برامج الدعم التي بلغت أعلى مستوى لها لمواجهة الآثار المترتبة على جائحة كورونا، فضلا عن مواصلة الموجة التضخمية الهائلة ضرباتها على الجميع، في ظل تباطؤ اقتصادي عنيف، هو أقرب إلى الركود. مع تأكيد أن الركود آت إلى الساحة الأوروبية كلها تقريبا في غضون الأشهر المقبلة، وفق المشرعين الأوروبيين أنفسهم. أضف إلى ذلك، الضغوط الكبيرة من جهة نقص إمدادات الطاقة، وارتفاع أسعارها إلى مستويات تاريخية، بسبب استفحال الحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا، وأيضا لغياب استراتيجية أوروبية تضمن حقا أمن الطاقة!
قبل أسبوعين عمت بريطانيا فوضى سياسية إلى جانب الضغوط الاقتصادية المتصاعدة على الحكومة والشعب في آن معا. لماذا؟ لأن حكومة ليز تراس التي استقالت بعد 44 يوما من تسلمها الحكم، قررت في خطوة لم تحدث سابقا، أن تخفض الضرائب "ولا سيما على شرائح الدخل الأعلى"، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ضرائب الشركات، من أجل أن تحقق النمو الذي سيساعد على حلحلة الأزمة الاقتصادية عموما. لكن مشكلة تراس تكمن في أنها ستمول الخفض الضريبي الكبير هذا، عبر الاقتراض! هنا برزت أزمة الديون الحكومية التي تجاوزت مجموع الناتج المحلي البريطاني منذ أعوام وليس الآن. معنى ذلك أن الاقتراض سيرفع من مستوى هذا الدين الذي ينشر القلق في الميدان. اضطر بنك إنجلترا المركزي إلى التدخل على الفور وشراء ديون حكومية من أجل الإبقاء على سمعة الاقتصاد الوطني، التي خفضتها وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني حقا.
الديون السيادية الأوروبية ليست جديدة. وكلنا نتذكر الأزمة الهائلة التي وقعت فيها عدة دول في أواخر العقد الأول من القرن الحالي. لكنها في هذا الوقت بالذات تعد خطيرة بصورة أكبر، ليس لتراكمها، بل باعتبارها "الملجأ" الأكثر حضورا وسهولة، لمواجهة التحولات الاقتصادية المحلية الراهنة. فعلى سبيل المثال بلغت ديون إيطاليا أكثر من 152 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، واليونان 189 في المائة، والبرتغال 127 في المائة، وإسبانيا 118 في المائة، وفرنسا الدولة المحورية في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، تعاني ديونا بلغت 114 في المائة من مجموع ناتجها المحلي. إلى جانب عدد آخر من الدول، خصوصا تلك التي تضمها قائمة اليورو. تطرح أسئلة كثيرة حاليا حول إمكانية نشوب أزمة ديون سيادية بصورة أو بأخرى. وهذا يعني أن أوروبا بصورة عامة، ستواجه أزمة أشد من تلك التي شهدتها في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008.
صحيح أن سمعتها الائتمانية لا تزال قوية، لكن الصحيح أيضا أنها لم تعد مضمونة. فحتى بريطانيا التي تتمتع بمرتبة خامس أكبر اقتصاد في العالم، تعرضت للخفض، فكيف الحال بدول هشة اقتصاديا قبل الأزمة أساسا؟ هنا تكمن حساسية الديون السيادية في الاتحاد الأوروبي عموما. فهذه الدول ليست من الدول النامية، وهي تحت لواء اتحاد يضم ثلاث دول من مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، هي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. فأي عجز عن السداد في دولة واحدة سيضرب سمعة كل الدول، لأنها في النهاية ضمن سوق مشتركة هائلة الحجم والقيمة أيضا. لذلك، فالأسئلة التي تطرح في هذا المجال يجب أن تكون حاضرة عند المشرعين الأوروبيين أنفسهم. فألمانيا التي أنقذت اليونان وإسبانيا وأيرلندا، ربما ستجد صعوبة في القيام بهذه المهمة في الوقت الراهن، حتى في ظل مخاطر، من انسحاب دول من الاتحاد في ظل وجود بعض الإدارات السياسية اليمينية التي لا تحب أساسا هذا التكتل.