Author

الخلط بين مفاهيم الحوكمة والأعمال التنفيذية

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
قبل الإجابة عن هذا السؤال هناك مقدمة لا بد منها، فالصراع الفلسفي حول المفاهيم القابلة للدراسة والبحث العلمي صراع طويل جدا يعود إلى القرن الـ17 الميلادي، ولعل خطورة الإجابة عن هذه السؤال أنها تحدد ما هو العلم وما هو غير ذلك، لقد ألزم فلاسفة الغرب أنفسهم منذ نيوتن بالذات بأنه يجب أن يكون لكل مفهوم واقع تجريبي، "أي له ارتباط بالواقع الذي نعيشه ونشعر به بحواسنا"، حتى يقبل عندهم كمفهوم علمي. ثم مضى الفلاسفة في صراعهم حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية، هل هي من العلم أم لا، ذلك أن معظم مفاهيمها "القضايا الاجتماعية والاقتصادية" ليست له طبيعة مادية، فمثلا مفهوم مثل "القيمة" هل هو موجود في الطبيعة أم هو مفهوم وجد في العقل الاجتماعي لجعل الحياة الاقتصادية مفهومة، ذلك أن القيمة لا يمكن الإحساس بها باليد أو رؤيتها بالعين وليست لها رائحة ولا لون، وليست لها كتلة ولا ثقل. لكن استطاع الإنسان الاقتصادي قياسها بمقاييس مادية مثل السعر والعملة، أي أننا ذهبنا نحو جعل القيمة شيئا يمكن تطبيق معايير المادة عليه، ولهذا فإن وجود مفهوم مثل القيمة في العلم يجب أن يتضمن قياسا بمادة طبيعية، وهكذا يمكن تطبيق القاعدة في جميع المفاهيم الاقتصادية، هذه هي العلمانية في أوضح صورها وهكذا نجح الاقتصاد في إثبات نفسه كعلم، ولهذا السبب أيضا تأخرت علوم مثل الإدارة والمحاسبة في فرض نفسها كعلوم، فلم تدخل المحاسبة إلى الجامعات إلا قريب منتصف القرن الـ20. ولا شك أن هذا أصعب ما واجهه مفهوم مثل الحوكمة لإثبات وجوده العملي، وذلك يكمن أساسا في قدرتنا على قياسه بشكل مادي، ولهذا نتحدث عن تكوين مجلس الإدارة، فللمجلس وجود مادي بأعضائه واجتماعاته ولوائحه وغير ذلك، ولجان المجلس لها وجودها بأعضائها واجتماعاتهم وغير ذلك، وهكذا في كل أركان وقواعد الحوكمة، فوجود الحوكمة بشكل مادي مجرد في الواقع غير صحيح، ولا يمكن أن يكون كذلك، ولهذا أستغرب جدا ممن يضع إدارة اسمها الحوكمة "لكنه العقل المادي غير التجريبي مع الأسف الذي يحاول إيجاد المفهوم في شكل مادي حتى لو كانت نتائج التجربة تنفي ذلك".
هناك مفهوم آخر وهو المخاطر، فالمخاطر بشكل مجرد غير موجودة في الطبيعة، بل هو مفهوم وجد في العقل لفهم معنى الهروب والهجوم، لكن لكي يصبح الخطر مفهوما علميا لا بد له من أداة لقياسه وهي هنا الأحداث التي لها آثار سلبية، فإذا حدثت هذه الأحداث دون آثارها لم تكن مخاطر، فلا بد من حدث وأثر، وأن يكون هذا الأثر ذا طبيعة مادية بشكل واضح حتى نقول إن المخاطر علم له قياسات وله مدرسة، من هنا نشأ علم إدارة المخاطر الذي يهتم بقياس المخاطر بأدواتها المادية، ومع ذلك فإن وجود "لوحة جميلة" على باب غرفة "أنيقة"، في أي جهة مكتوب عليها إدارة المخاطر، لا يعني بالضرورة وجود الإدارة فعليا "لكنه العقل المادي غير التجريبي مع الأسف الذي يحاول إيجاد المفهوم في شكل مادي حتى لو كانت نتائج التجربة تنفي ذلك"، فإدارة المخاطر لن تكون موجودة ما لم يكن هناك وجود مادي ملموس لكل مفاهيمها مثل وجود سجل المخاطر، ووجود خطة تخفيف المخاطر، ووجود اجتماعات ومحاضرها، هكذا تسير الأمور فوجود "مدير" لا يعني وجود "الإدارة". وهذا أيضا صحيح بشأن إدارة المراجعة الداخلية، فوجود لوحة في الجهة ليس بالضرورة وجود المفهوم بشكل المادي، لا بد من استكمال عناصر مادية كثيرة نسميها النضج، والاستعداد.
والعكس قد يحدث، فقد يكون هناك اهتمام كبير بتقديم أدلة على مفهوم بينما لا وجود له، ولا أدل على هذا مثل مفهوم الجودة، بينما هي غير موجودة على الحقيقة لكن لها قياسات، ولكي نثبت وجودها نعتمد اختلاق المقاييس المادية، فمثلا في الجامعات والمستشفيات هناك حديث عن اعتمادات وشهادات وتقييم كدليل على الجودة، ومع ذلك فإن الجودة نفسها "كمفهوم تجريدي" غير موجودة، وهذا أخطر ما في "العلمانية"، فالجودة قيمة اجتماعية لا يمكن إثبات وجودها الفعلي إلا من خلال استخدام الخدمة بالشعور الذي يوجد في النفس من خلال الرضا، لكن ما نشهده هو اهتمام شديد بالشكليات التي يراد بها أن تدل على الجودة، مثل الوثائق، والإجراءات، والنماذج واللوحات الإرشادية والخطوط الصفراء والحمراء، وهذه جميعها تقدم دليلا على وجود الاهتمام بالجودة، لكن ليست دليلا على الجودة نفسها، فلا يمكن إثبات الجودة إلا بعد استخدام الخدمة.
بالعودة إلى القضية الأساسية للمقال وهل هناك تعارض في مفهوم الحوكمة والمخاطر والالتزام، أقول هناك كثير من هذا الخلط مع الأسف، فالحوكمة والمخاطر والالتزام مجرد مفاهيم، مثلها مثل الجودة، فإذا غرقت الجهات في الاهتمام بوجود شكل "مادي" لهذه المفاهيم، فإنها ستوجد تعارضا ظاهريا بوجود إدارة اسمها GRC، "لكنه العقل المادي غير التجريبي مع الأسف الذي يحاول إيجاد المفهوم في شكل مادي حتى لو كانت نتائج التجربة تنفي ذلك" فوجود إدارة اسمها GRC يظهر الشركة بأنها متقدمة في هذا الممارسات، بينما الواقع التجريبي يرفض ذلك فقد تجد الشركة أو الجهة لا تكاد تحسن تطبيق الشفافية والإفصاح وليس لها نظام الرقابة الداخلية تلتزم به أو تدرك وجوده أصلا. وإذا كان الحال هذا فلا يمكن أن يكون هناك تداخل في الصلاحيات أو تعارض مصالح بين هذه المفاهيم، ذلك أنها مفاهيم مجردة ولها ظواهر لا تتعارض وما زلنا ندرسها وتعلم كل يوم جديدا فيها.
إنشرها