Author

دور العصف الذهني في إيجاد الابتكارات

|

*أستاذ وباحث في الهندسة والأنظمة الابتكارية

أحد الأبعاد الاستراتيجية المهمة التي يرتكز عليها كثير من الدول المتقدمة وأصبحت من أهم مميزاتها التنافسية، التي لها الآثار الملموسة في الأبعاد الاقتصادية الصناعية والاجتماعية والدفاعية بمختلف فروعها، هي الأبحاث العلمية الفاعلة، وأقصد بتلك الأبحاث التي لها آثار ونتائج بارزة وإمكانات حقيقية لتطبيقها والاستفادة منها كابتكارات نوعية هادفة، تهدف إلى خدمة البشرية في شتى المجالات. ولا شك أن ذلك يحتاج ويتطلب جهودا متكاتفة ومتكاملة مع جميع الجهات ذات العلاقة، وتبدأ من الاستراتيجيات التي تقوم بها وتهدف إليها، وأولها تفعيل ممارسات العصف الذهني Brainstorming وعمل ورش العمل والفعاليات لتحفيز الابتكارات والمبتكرين، وتشمل تهيئة البيئة لتلك البحوث والابتكارات، ومن أهمها تهيئة البيئة التعليمية ودعمها وتمكينها، ولأهمية هذا الموضوع سأتطرق في هذا المقال إلى كيفية ذلك مع ذكر بعض الأمثلة لتوضيح ذلك.
تعد الجامعات بمراكزها البحثية والابتكارية والريادية في الأعمال من أهم عوامل التطوير والتقدم، ولعل وجود بيئة تعليمية متطورة مشجعة للبحث والابتكار سيكون له الأثر البارز في ذلك، ولعلي أستشهد بجامعة حائل كمثال لذلك. جامعة حائل هي إحدى الجامعات السعودية التي أسست بمرسوم ملكي في 2005، حيث تعد من الجامعات الناشئة الأكثر تطورا في المملكة، وحصلت في 2019 على جائزتين للتميز في الإنتاج العلمي الأعلى تأثيرا والأكثر إنتاجا في قاعدة Scopus، التي تعد من أكبر قواعد البيانات العلمية، وأخيرا وبمرجعية تصنيف "التايمز" العالمي للجامعات لـ2022، تمكنت الجامعة من الوصول إلى مراتب متقدمة على المستوى العالمي، حيث تقع ضمن أفضل 351 جامعة عالمية، وعلى مستوى الدول العربية احتلت المركز التاسع، وعلى مستوى الجامعات في المملكة تصدرت المركز الخامس، ولا شك أن ذلك من نتائج اهتمام ودعم ورعاية القيادة الرشيدة لقطاع التعليم، واهتمام وحرص قيادات الجامعة للاستفادة من ذلك.
في الأسبوع الماضي اختتمت المسابقة الوطنية للابتكار "عصف" التي نظمتها الجامعة، وهي تقع ضمن أنشطتها في دعم الابتكار ومنظومة الابتكار الوطني وبرنامج تنمية القدرات البشرية، الذي يعد أحد برامج رؤية المملكة 2030، شملت المسابقة أكثر من 300 فريق بأفكار ابتكارية ونماذج صناعية مختلفة مشاركة في المسابقة، وبمشاركة عشر جامعات سعودية، مثل هذا النوع من المشاركات يوفر البيئة الجيدة للمشاركين ويتيح لهم عصف أفكارهم وتبادل الخبرات فيما بينهم للخروج بأفضل ما لديهم من ابتكارات نوعية في المجالات التي يشاركون فيها. وقد كان لي شرف المشاركة في تحكيم هذه المسابقة الوطنية الرائدة بدعوة من اللجنة التنظيمية للمسابقة، وهيئت لي فرصة للاطلاع على البيئة التنظيمية التي تنتهجها الجامعة في مسيرة دعم البحث العلمي والابتكار وحرص مسؤوليها على ذلك، وأقرب الأمثلة في ذلك هو ما هيأته الجامعة لهذه المسابقة من بيئة تنظيمية حيوية ابتداء من وضع خطتها وأهدافها وتنفيذها واختتامها، فأعدت لها مسارات ابتكارية متعددة شملت: مسارات الابتكار في التقنية والطاقة والابتكار والفضاء والصحة والمواد والزراعة، وكذلك الابتكار في السياحة وغيرها، مثل الأمن والحماية والدفاع، وهيأت لهم المكان الملائم لمثل هذه الابتكارات في مبنى كلية الهندسة في الجامعة، ومكنت ودعمت المشاركين بعديد من الفرص التي شملت عديدا من البرامج التدريبية والتوجيه والإرشاد، وإمكانات وفرص التسويق والإعلان لمشاريعهم. وكانت نتائج ذلك مبهرة للجميع، تجلت وظهرت لنا من خلال فترة التحكيم، حيث وجدنا عديدا من الأفكار والنماذج الصناعية الواعدة في عديد من القطاعات مثل الصحية والجودة وتحسين الحياة والأمنية والدفاعية منها التي بالفعل تدل على أن هذا الوطن المعطاء لديه من القدرات التي يحق له أن يزهو بها وينافس في المحافل العالمية. وفي اختتام المسابقة وأثناء الحفل الختامي، وخلال توزيع وتكريم الفائزين بجوائز المسابقة الوطنية للابتكار، وجه أمير المنطقة، بمضاعفة قيمة الجوائز من "68" ألف ريال إلى "890" ألف ريال، لتشمل الفائزين وجميع الفرق النهائية المشاركة، وهذا وإن دل على شيء فإنما يدل على حرصه على استدامة مثل هذه المبادرات وعلى دعم البحث والابتكار، وأن تكون جامعة حائل منصة للابتكار، وهذا ليس بمستغرب على قيادات هذا الوطن وحرصهم على الوصول به وأبنائه إلى مصاف الدول العالمية، إن لم نكن في مقدمتها.
من المهم جدا الاهتمام بالعلماء والباحثين المبدعين والموهوبين المبتكرين وتهيئة مثل هذه الحوافز والمبادرات والمسابقات التشجيعية لهم، وتهيئة الأماكن والبيئة والظروف التي تجمع بين هؤلاء الكواكب من مختلف مناطق المملكة ومدنها ومراكزها البحثية وغيرها بمختلف التخصصات. ولاستدامة مثل هذه المبادرات والمسابقات الوطنية في مجال الابتكار، أرى ضرورة جمع وتنسيق مثل هذه الأفكار والمبادرات والأبحاث والابتكارات في مرجعية واحدة "منصة ابتكار وطنية"، يسهل للباحث والعالم والمبتكر والمستثمر والمصنع وصاحب القرار الرجوع إليها في أي وقت يشاء، ولتكون بمنزلة مرجعية للمهتمين لتبادل الأفكار والرؤى في هذا القطاع المهم، وكذلك لتوحيد الجهود، كما ذكرت ذلك في مقال سابق، بعنوان "منظومة الابتكار عبر منصة موحدة"، وألا تكون بداياتنا من حيث بدأ الآخرون، بل تكون انطلاقتنا من حيث انتهى الآخرون، ومبدؤنا ابتكار وريادة ببحث وعصف مستدام.

إنشرها