Author

تبعات موجعة وحلول صعبة

|

يواجه العالم اليوم تحديات كبيرة، فمن جانب هناك الحرب على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، ومشكلات في سلاسل الإمداد، وهناك جائحة صحية لم يتعاف العالم من تداعياتها وسلبياتها بعد، مع تضخم مرتفع وسياسات مالية متشددة بشكل غير مسبوق، لكن من المؤكد أن العالم يعاني هذه القضايا بشكل غير متسق. وليس العالم أجمعه على أطراف الصراع الروسي ـ الأوكراني، وجزء من العالم قد تجاوز الجائحة فعليا وانطلق في النمو، والآخر يعاني مشكلات في سلاسل الإمداد، بينما البعض لديه ما يكفي من الإمدادات مع استقرار معدلات التضخم. وهناك تباين واضح في القضايا والمعالجات التي تصاحبها، فبينما تتشدد الولايات المتحدة بشأن الفائدة، يصر "المركزي الياباني" على عدم رفع سعر الفائدة، وفي هذا يؤيده عدد من الدول، وعلى الجانب الآخر من العالم هناك دول تعاني تبعات كل هذه المشكلات دون أن يكون لها يد في أي منها، أو حتى دور في المعالجة الأساسية.
وبعض الدول النامية التي أسست علاقات اقتصادية قوية مع أي من طرفي النزاع الروسي ـ الأوكراني تجد نفسها في مأزق بشأن سلاسل الإمداد، ومن ذلك بعض دول الاتحاد الأوروبي التي اعتمدت بشكل كلي على إمدادات الغاز الروسية وتجد نفسها اليوم في موقف صعب، وتوجد دول في إفريقيا تواجه مشكلات غذائية وارتفاع الأسعار لمنع إمدادات القمح والأسمدة من أوكرانيا، ومن أجل رسم صورة واضحة عن حجم هذا التباين، صدرت بيانات صندوق النقد الدولي بأن المملكة تفوق دول مجموعة العشرين كافة بتحقيق نسبة نمو بلغت 13 في المائة خلال الربع الثاني من العام الجاري. وجاءت دول مثل ألمانيا بنسبة 1.7 في المائة، واليابان 1.6 في المائة، والصين 0.4 في المائة، وجنوب إفريقيا 0.2 في المائة، وبلغ النمو في الهند 12.2 في المائة وفي تركيا 7.6 في المائة، وفي الوسط جاءت إندونيسيا بنمو 5.4 في المائة، ثم إيطاليا 4.7 في المائة، وفرنسا 4.2 في المائة.
هذا التباين يؤكد أن الظروف التي تواجه دول العالم غير متسقة ومختلفة، ولذلك فإن المعالجة الاقتصادية لكل حالة يجب أن تكون بمعزل عن غيرها، وأن تنظر كل دولة إلى مصالحها. لكن رغم وضوح هذه الصورة، فإن التقرير الذي أصدرته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD، بعنوان "دفع فاتورة الحرب"، ينطلق من أن على الاقتصاد العالمي دفع ثمن باهظ للحرب الروسية ـ الأوكرانية، التي وصفها بأنها كارثية وخطر على الأوضاع الاقتصادية على مستوى العالم، فضلا عن الدمار العسكري الذي تشهده تلك المنطقة، خاصة القارة الأوروبية، وهذا التعميم بشأن الآثار المترتبة على الحرب، وأن العالم أجمع يدفع الثمن، حيث ارتفعت أرقام فاتورة خسائر هذه الحرب منذ بدايتها وظلت القضية محل نقاش ساخن.
لا شك أن الجميع ضد معالجة المشكلات بالقوة العسكرية، وأن الحرب تعد من المآسي الإنسانية التي لا يريدها العالم المتحضر بأي شكل، لكن مع ذلك فإن ربط كل القضايا الاقتصادية الراهنة، وهذا التفاوت في الآثار والنمو، بالحرب فقط، وأن على الجميع تحمل فاتورتها الباهظة، هو من التعميم الذي لا يستقيم حتى في تقرير المنظمة نفسه. فعلى الرغم من العنوان القوي للتقرير والمقدمة القاتمة له، إلا أنه سرعان ما يذهب إلى اعتبار استمرار آثار جائحة كوفيد ـ 19 والتضخم المرتفع والمستمر لفترة أطول من المتوقع هي الأسباب الأكثر تأثيرا، فالتضخم في النصف الأول من 2022 كان في أعلى مستوياته منذ الثمانينيات في القرن الماضي، وتحولت المؤشرات نحو الأسوأ، ورغم هذه العبارات فقد أبقت المنظمة على توقعاتها للنمو لهذا العام عند 3 في المائة. وقدرت المنظمة الخسائر المالية المتوقعة للحرب بـ2800 مليار دولار، لكنها قيدت ذلك بأن الدول المجاورة لأوكرانيا وروسيا هي التي ستدفع الثمن الأكبر. وتوقع التقرير أن النمو في منطقة اليورو سيبلغ 0.3 في المائة مقابل 1.6 في المائة في التوقعات السابقة في حزيران (يونيو)، والسبب الرئيس ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم الذي يتوقع أن يبلغ هذا العام 8.1 في المائة، و6.2 في المائة العام المقبل.
وفي الدول القريبة من الحرب، فإن الأسباب تتنوع، فبينما ترى المنظمة الدولية أن نقصا أكبر من المتوقع للغاز يؤدي بتأثير متتابع إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو بـ1.25 نقطة إضافية، فإن التضخم يبقى هو السبب الرئيس. والارتفاع الحاد للأسعار يهدد نشاط عدد متزايد من الشركات التي اضطر بعضها إلى خفض أنشطته، ولذلك يتوقع صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير الصادر في تموز (يوليو) نموا 0.8 في المائة في ألمانيا، و1 في المائة في فرنسا، و1.2 في المائة في منطقة اليورو. لمعالجة التضخم، تصر البنوك المركزية كافة على متابعة زيادة معدلات الفائدة رغم وجود خطر تقويض النمو، وفي هذا يؤكد تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أن رفع معدلات الفائدة "عامل أساس" في التباطؤ الحالي، وتدعو من خلال تقريرها البنوك المركزية كافة إلى تجنب زيادة المعدلات بشكل أكبر في حال استمر ارتفاع التضخم، وأن تكون هناك تدابير مالية موجهة للأسر والشركات كجزء من المعالجة، عادة التدابير التي اتخذت حتى الآن لكبح ارتفاع أسعار الطاقة كانت "موجهة بشكل سيئ".
وهذا الرأي يدعو إلى التأمل في مدى مطابقة عنوان التقرير، الذي يحمل العالم تبعات الحرب ودفع فاتورتها، بينما المعالجة السيئة للتضخم هي السبب الرئيس حتى الآن. إن هذه الحرب التي ما زالت مستمرة قفزت على السطح آثارها السلبية في اقتصاد العالم كله، وأرهقت الجميع بنتائج مخيبة وموجعة. وأخيرا، يطرح سؤال مهم وملح: هل نستطيع التنبؤ بمستقبل النزاع المسلح الروسي ـ الأوكراني، وإلى أين ستؤول نهاياته؟ يجب أن نفحص حجم الخسائر التي تتكبدها جميع الأطراف، وأن ندرك المعادلة السياسية الضاغطة على الدول الأساسية في الصراع. وفي مواجهة هذا التحدي، فإن العلاج الوحيد الفعال للمخاطر التي تواجه العالم من جراء هذه الحرب الآن هو التعاون الدولي.

إنشرها