Author

مؤشرات اقتصاد منطقة عسير «3»

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
في المقال الماضي ناقشت أمرين في غاية الأهمية، الأول هو تأثير تأخر دخول علوم الأعمال والاقتصاد والعلوم بخلاف الشريعة واللغة العربية للمنطقة، والثاني هو سرعة دخول المنطقة في معترك المنافسة على قطاع السياحة دون وجود صناعة متكاملة ووعي كاف بها، خاصة مع تدفق السياح من جميع ربوع الوطن والخليج العربي، وكما أشرت كثيرا إلى مشكلة تركز الثقافة التجارية في المنطقة في فكرة الأسواق الشعبية خاصة سوق الثلاثاء، وتأثير كبير للعوامل القبلية "أكثر مما يجب" فهذه العوامل معا أسهمت في عدم استيعاب المنطقة للنقلة الحضارية والاقتصادية التي انطلقت في المملكة عموما والمنطقة خاصة مع تكامل منظومة النقل البري والجوي من وإلى المنطقة وارتباطها مع مدن المملكة والعالم بطريقة لم يسبق أن حدثت في التاريخ، لقد كان تدفق السياح كثيفا جدا لدرجة أن المنطقة لم يتوافر لها القدرة على توفير الإيواء الكافي ولا حتى المطاعم ومناطق التسوق، لذا تركزت حركة السياحة في المتنزهات، ولم تجد الحكومة بدا من فتح المتنزهات للسياح والسماح لهم بإقامة المخيمات فيها، ما تسبب لاحقا بمشكلات جمة، عندما أدركت الحكومة خطورة ذلك تراجعت عن السماح بإقامة المخيمات في المتنزهات وقد تأثرت الحركة السياحية بذلك وتراجعت الأرقام وبقيت الحركة السياحية لفترة ليست بالقصيرة، ولم تتحول السياحة إلى صناعة في المنطقة وكما قلت تكرار بأن مشكلة التعليم الإداري والاقتصادي لم تأخذ موقعها بعد، ويحسب لجامعة الملك سعود أنها أول من أنشأ كلية للطب في المنطقة، وقد أسهمت حتى اليوم في نهضة صحية مشهودة، بينما تم فتح أقسام المحاسبة وإدارة الأعمال ضمن كلية اللغة العربية لفترة طويلة في رسالة بدت غير مشجعة للانخراط في هذه العلوم المهمة، فضلا عن تأخر كبير لتخصصات مثل الإعلام والحاسب الآلي فلم تنشأ هذه التخصصات فعليا إلا مع القرن الـ21.
لهذا لم تكن هناك فرصة كافية للاستفادة من الحركة السياحية لبناء صناعة، رغم كل الجهود الجبارة التي بذلها الأمير خالد الفيصل آنذاك، الذي تنبى عديدا من الأفكار الضخمة مثل إنشاء مركز للمؤتمرات الدولية في منطقة السودة مع فندق سياحي عالمي، ثم تطوير المناطق السياحية لتوفير فرص للرياضات الجبلية، ثم إنشاء الشركة السياحية التي عملت على إنشاء مرافق عالمية ومنطقة للمعرض والتلفريك وتطوير القرى الاثرية، بل وصل الأمر إلى إنشاء كلية للسياحة، مع توفير فندق عالمي ومنتجع، لكن مع كل هذه الجهود فإن المنطقة "كمجتمع اقتصادي" لم تستطع اللحاق بفكر الأمير خالد الفيصل ومواكبة التطور من خلال إحداث نقلة اجتماعية واقتصادية شاملة، فقد بقيت مراكز الإيواء محصورة في شقق لا يمكن اعتبارها فندقية بأي حال، وبقيت الأسواق كما هي شعبية بسيطة موسمية، والترفيه لم يجد له عنوان في المنطقة، وارتفعت الأصوات من أسعار الشقق ومن مستويات الخدمة وفقدان عناصر السياحة وأركانها، وهذا انعكس سلبا لعقود على السياحة الداخلية في المنطقة وقدرتها على المنافسة فضلا عن تقديم نموذج قابل للتكرار. لقد جاء إنشاء كلية الأمير سلطان للسياحة لمعالجة الخلل وإحداث نقلة فكرية في المنطقة لكن لم يحدث أثر يمكن الإشارة إليه وتخلت الكلية عن فكرة السياحة لاحقا، لكن تجب الإشارة هنا إلى أن تجربة الكلية كانت مؤشرا على أن التعليم المتخصص يعد المشكلة الأساس في التقدم الاقتصادي للمنطقة، وأن انحصاره في أدوار معينة مرتبطة بالعمل الحكومي كان يحتاج إلى حل.
بالطبع تأتي الأرقام الاقتصادية لتعكس الوضع القائم فحتى 2015 لم يتجاوز عدد الرخص التجارية 20 ألف رخصة تجارية في منطقة ذات مساحة شاسعة وتنوع حضري وبيئي كبير مع عدد سكان يتجاوز مليوني نسمة، ولم يتجاوز عدد الرخص لقطاع الترفيه والرياضة عن 101 رخصة، والزراعة 36 رخصة، بينما بلغت الرخص للتجارة والتجزئة 3.6 ألف ترخيص، تلتها رخص الخدمات 3.5 ألف رخصة، وبلغ عدد الفعاليات الترفيهية في 2019، 13 فعالية فقط، وعدد المصانع 35 مصنعا يعمل فيها ألفا عامل، وفي تقرير لغرفة أبها فقد بلغ عدد المنشآت 6438 منشأة منها خمسة آلاف منشأة متناهية في الصغر يعمل فيها أقل من خمسة أشخاص، وعلى مدار الأعوام العشرة، بينما لم يتجاوز عدد المنشآت الصغيرة 300 منشأة، بلغ المتوسط السنوي لمعدل النمو في رأس مال المصانع في منطقة عسير نحو 45 في المائة وهو أقل من مثيله على مستوى المملكة الذي زاد على 95 في المائة، وفي منطقة تعد السياحة أهم مصادر الدخل فيها وفيها أكثر من 400 قرية أثرية، فإن عدد المرشدين السياحيين قد بلغ 16 مرشدا فقط، وبينما تسير في الطرق الحيوية في المنطقة يدهشك العدد الضخم جدا للأسر المنتجة على جنبات الطريق، وهذا يقدم مؤشرا على أهم مشكلة اقتصادية في المنطقة وهي ثقافة العمل الحر، التي أسميها بمشكلة "العصامية"، وهي امتداد لثقافة الأسواق الشعبية التي امتدت اليوم لتصل إلى جنبات الطرق وخرجت من السوق التي لم تتطور منذ الأزل، كما أن العصامية جعلت معظم التجارة قائمة على أسس موسمية، ومعظمها جهود فردية خالصة، فالعصامي يعتمد على حسه التجاري وذكائه الفطري وقدرته الذاتية على العمل اليدوي دون معنى لفكرة التخصص، مع عدم تفويض السلطات لأحد، والرغبة في المغامرة التي تتضمن التعلم الذاتي من التجربة والخطأ، ما يتطلب القفز من مشروع إلى آخر دون سبب واضح ولا تفسير سوى ملاحظة شخصية ودون دراسة لحالة الأسواق أو العرض والطلب. ويمكن ملاحظة تزايد أعداد الرخص التجارية التي بلغت 20 ألفا في مقابل أعداد المنشآت التي بلغت ستة آلاف فقط، وقد تجد تكرار واسع للنشاط نفسه مهما كان هذا النشاط بسيطا، والسبب يعود كما أشرت إلى فكرة العصامية وتأثير السوق الشعبية الذي أغرق اقتصاد المنطقة في مشاريع متناهية في الصغر غير قادرة على بناء صناعة متكاملة الأركان.. يتبع.
إنشرها