Author

عقوبة الرمال وصناعة التكنولوجيا

|

تطرح أسئلة كثيرة عن الصراع الصيني – التايواني، الدائر حاليا في منطقة حساسة على المستويين السياسي والاقتصادي، خاصة أن تداعيات هذا الوضع بين أكبر اقتصادين في آسيا ستضر جنوب شرقي آسيا والعالم أجمع، وستزيد اضطراب الأسواق عموما. ولاحظنا كيف شهدت الأسواق المالية حول العالم اضطرابا شديدا خلال الفترة الماضية من جراء زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب في الكونجرس الأمريكي، إلى تايبيه عاصمة تايوان، وكان الاضطراب أشد في الأسواق الآسيوية، تحسبا لتصعيد الصراع بين الولايات المتحدة والصين على خلفية الزيارة. ويعد ذلك مؤشرا أوليا لتبعات تصاعد الصراع بين واشنطن وبكين على الاقتصاد العالمي ككل، وعلى منطقة جنوب شرقي آسيا خصوصا.
وتواصل الصين التصعيد ضد جارتها تايوان باستعراضات عسكرية وعقوبات اقتصادية وتلويح بالحرب، إلا أن أغرب ما لوحت به كان حرب الرمال، إذ أعلنت بكين ضمن حزمة إجراءاتها منع تصدير الرمال إلى تايوان أخيرا، بناء على قرار وزارة التجارة.
وتعد الصين المورد الرئيس للرمل الطبيعي إلى جارتها، وهو المكون الذي يدخل في صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات التي تشكل أهمية للاقتصاد التايواني. وتعد مركزا عالميا لإنتاج الرقائق الإلكترونية، وتحتكر توريدها إلى كثير من دول العالم من خلال شركتها العملاقة TSMC، وتعليق صادرات الرمال الطبيعية سيكون له تأثير في هذه الصناعة.
ففي 1987 أسس في تايوان عملاق الرقائق TSMC، وهي أول مؤسسة مسؤولة عن 92 في المائة من الإنتاج العالمي. وهي اليوم مسؤولة عن 24 في المائة من إنتاج أشباه الموصلات في العالم. وتستعين شركات، مثل: إنتل، أبل، هواوي، نفيديا، وأمازون، وغيرها بخدمات هذه المؤسسة وحدها.
وتحتل تقنية الرقائق الإلكترونية موقع الصدارة في كثير من الصناعات، ولا يمكن الاستغناء عنها، لدخولها في تصنيع جميع المنتجات الإلكترونية، كما تدخل في صناعة الطائرات التجارية والحربية وأنظمة التسليح المطورة، والهواتف النقالة والأجهزة اللوحية والمكتبية.
تستهلك تايوان حاليا نحو 90 مليون طن متري من الرمال الطبيعية في العام، ثلثها كان من صادرات الصين.
إن هذا القرار هدفه الأول محاصرة وخنق تايوان تجاريا واقتصاديا، كما أنه يعطل التجارة مع بقية دول العالم، خاصة في آسيا، كما أن حظر الصين التعامل مع شركات التكنولوجيا التايوانية يعني حرمان الاقتصاد الصيني من أحد المصادر الرئيسة لأشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية التي تدخل في أغلب الصناعات الآن. ولن يؤثر ذلك في الصين وحدها، بل في شركات التكنولوجيا الكبرى الأمريكية والغربية التي توجد مصانعها في الصين.
كما كان متوقعا، بدأت الصين سلسلة من العقوبات على جزيرة تايوان، وبعيدا عن الخلافات المتصاعدة بين واشنطن وبكين في هذا الخصوص، أعلنت السلطات الصينية تعليق استيراد بعض أنواع الفاكهة والأسماك من تايوان، لكن الحظر الأهم يتعلق بحظر تصدير الرمال الطبيعية، التي تستخدم في صناعة الرقائق الإلكترونية. والعالم يواجه أصلا مصاعب جمة في إمدادات هذه الرقائق منذ أعوام عدة، ما أثر سلبا في الصناعة في أغلب القطاعات التي تعتمد على هذا المنتج الصغير حجما، الكبير أهمية.
وصناعة الرقائق الإلكترونية باتت جزءا أصيلا من الأمن القومي لأغلب الدول، ولا سيما الدول الغربية التي تؤمن احتياجاتها من هذه الرقائق من الخارج، خصوصا تايوان، التي تعد رائدة في هذه الصناعة، بما في ذلك وجود أكبر مصنع للشرائح في العالم فيها. ووقف الصين توريد الرمال الطبيعية إلى الجزيرة، يمثل ضربة قوية للصناعة حول العالم.
فقبل أيام أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، دعما ماليا لهذه الصناعة بلغ 54 مليار دولار، بينما أشارت المفوضية الأوروبية إلى أنها تعمل على رصد 15 مليار دولار للغرض نفسه، ما يعزز الاعتقاد أن الدول الغربية، التي تواجه مصاعب جمة على صعيد الطاقة من جراء الحرب في أوكرانيا، ستواجه مشكلات إضافية على صعيد إمكانية تراجع إنتاج الرقائق الإلكترونية من جراء الخطوة الصينية.
وعلينا أن نتصور حجم الأضرار التي ستصيب هذه الشركات العابرة للقارات لو تراجعت وتيرة إنتاج الرقائق الإلكترونية. وهناك شركات كثيرة مختصة في هذا المجال في تايوان، ستتأثر حتما بقرار بكين حظر توريد الرمال الطبيعية. فهذه المادة أساسية، وتسهم أيضا في تطوير معماريات جديدة تسمح بزيادة أشباه الموصلات ضمن الرقائق الإلكترونية، خصوصا في ظل تأمين هذا المنتج لخدمات الجيل الخامس التي تنتشر على الساحة الدولية.
وخلال العام الماضي، حققت تايوان نموا بلغ 4.3 في المائة، أسهمت صادرات أشباه الموصلات في دعمه، ولا سيما بعد أن شهد المنتج زيادة في أسعاره وأحجامه. والمشكلة تزداد تعقيدا، لأن هذه الرمال تستخدم بصورة أساسية في تصنيع الأسفلت ومواد البناء الأساسية "البيتون"، وتعتمد تايوان بشكل كبير على الصين في هذا القطاع أيضا. لكن تأثيرات خطوة بكين، تبقى أكبر في مجال تصنيع الرقائق الإلكترونية. ولا توجد بدائل حاضرة عن الرمل الطبيعي الصيني، الأمر الذي سيحدث بالتأكيد هزة على صعيد الصناعات حول العالم، فالرقائق باتت تدخل في صناعة كل شيء تقريبا، مثل: الطائرات والسيارات إلى الإلكترونيات والبطاريات والمعدات الطبية وغير ذلك. فنقص المواد الأولية، يعني ببساطة توقف تصنيع الرقائق في هذا البلد. دون أن ننسى، أن الصين هي أكبر شركاء تايوان التجاريين، ففي العام الماضي صدرت بكين ما قيمته 126 مليار دولار، في حين استوردت تايوان منها بـ82 مليار دولار.
وإذا ما تعمقت أزمة حظر تصدير المواد الأولية الرئيسة من الصين، فإن العالم سيواجه تفاقما جديدا لأزمة الرقائق التي ظهرت على الساحة منذ أعوام عدة، وأثرت في كثير من الصناعات الحيوية والمهمة لكثير من الدول.

إنشرها