Author

مؤشرات اقتصاد منطقة عسير «1»

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
هذه السلسلة من المقالات تهدف إلى بناء تصور شامل عن اقتصاد منطقة عسير بما يخدم مفاهيم التنمية المتوازنة ومستهدفات رؤية المملكة 2030. ويأتي اختيار منطقة عسير لأسباب أولها أنني من أبناء المنطقة وقد عشت فيها أيام الصبا الأولى وترعرعت في ضواحي سوق الثلاثاء، وعملت في تلك السوق لأكثر من عقد كامل من الزمان وكنت شاهد عيان لكثير من التحولات التي مرت على المنطقة حتى اليوم، وأما الثاني فلم أقرأ أي تصور اقتصادي للمنطقة يربط ماضيها بحاضرها ويرسم ملامح للمستقبل من خلال منظور اقتصادي بحت لدرجة أنه يستبعد أي أبعاد أو علاقات ما لم تكن اقتصادية صرفة، وقد تختلف النظرة الاقتصادية عن النظرة التاريخية، لذلك تجب قراءة المقال ابتداء من هذا المنطلق.
منطقة عسير تأخذ حيزا يعادل 80 ألف متر مربع في الجزء الجنوبي الغربي من مساحة المملكة، ويعيش فيها حسب آخر الإحصائيات المتاحة أكثر من 1.9 مليون نسمة، وتاريخيا وقبل العهد السعودي لم يكن في منطقة عسير ما يمكن وصفه بالحراك الاقتصادي، ذلك أن المنطقة عاشت بعيدة عن المدن الحضارية الكبرى في العالم وانعزلت عن كل المحكات والمحركات الاقتصادية، نظرا إلى طبيعتها الجغرافية الجبلية القاسية والوعرة، لكن المشكلة كانت أكبر من وعورة طريق، بل كانت في صلبها مشكلة إدارية كبيرة، فالمنطقة لم تشهد نهضة إدارية حقيقية قبل العهد السعودي، فلم تتمكن من بناء حكومة فاعلة ولم تستطع القبائل بناء عقد اجتماعي ينتج حكومة تستطيع بناء نظام مالي قادر على جمع الأموال من أجل تحقيق تنمية شاملة. كانت القبائل تقوم على نظام المشيخة لقرون طويلة، على غرار عادات العرب منذ الأزل، وكان الحلف بين القبائل هو الشكل الوحيد تقريبا من أشكال العقد الاجتماعي الذي شهدته المنطقة، والحلف مبني لأهداف الدفاع والأمن وإقامة وتنفيذ الأعراف القبلية ولم يكن يتجاوز ذلك. لم تكن القبائل قادرة على القيام بمشاريع حضارية كبرى حتى لو كانت مدارس أو مستشفيات، وكل ما استطاعت تلك الفترة إنتاجه هو الأسواق الأسبوعية التي انتشرت على طول طريق الحجاج، من اليمن حتى مكة المكرمة.
وكما أشرت، فكل ما استطاعت المنطقة إنجازه هو الأسواق التي نشأت في القرى الكبيرة مثل أبها، أو على جنبات الطرق التي تربط القرى الرئيسة مثل سوق خميس مشيط، ولو قمت بعد الأسواق التي نشأت لما اتسع هذا المقال لها، لكن جميعا بلا فائدة كبيرة، فلم تكن قادرة على إحداث حراك اقتصادي أو ثقافي يمكن حتى الإشارة إليه. هذه الأسواق كانت ملتقى القبائل، وفيها يتم البيع والشراء بنظام المقايضة، وهو النظام الذي عطل بشكل كبير قدرة المنطقة على إنتاج الثروة لقرون طويلة، فلم يكن هناك مجال لتحقيق إنتاج تجاري في أي منتج، بل لم تكن هناك فائدة كبرى من الحصول على فائض إنتاج كبير، فأغلب الإنتاج الزراعي والحيواني كان للاستهلاك الخاص والأسواق بالكاد قادرة على استيعاب فائض إنتاج الأسر، فلم تتوافر طرق معبدة أو وسائل مطورة تساعد على نقل الإنتاج للبيع في المناطق الأخرى والأسواق الرئيسة في الجزيرة مثل مكة وجدة، أضف إلى ذلك أن معظم الأسر كانت لديها المنتجات الزراعية نفسها تقريبا، فالشراء من السوق كان فيه نوع من الحرج على كل حال، وبسبب هذه العوامل فقدت المنطقة طوال عقود قدرتها على الابتكار والمبادرة، وهما أهم عناصر إنتاج الثروة وبناء اقتصاد صناعي، فقد كانت الأدوات الزراعية قديمة جدا ذات طابع حجري، فمكوناتها تأتي فقط مما تمنحه الطبيعة من مواد، فلم يكن هناك تصنيع كالذي ظهر في أوروبا أو حتى في مدن قريبة مثل القاهرة، وفقدت المنطقة حتى تلك الرغبة في الابتكار، فكان من الصعب الحصول على سلع مهمة مثل الأقمشة، والأثاث، والأدوات المنزلية حتى مواد البناء، وأنه من المدهش أن المنطقة لم تستطع حتى تطوير العجلة لتستخدم بشكل أوسع من الاستخدام الزراعي المحدود للغاية. وفي ظل هذا الوضع الاقتصادي الصعب جدا كانت المنطقة تعيش على الكفاف بكل معنى الكلمة، ورغم أن المنطقة كانت تتعرض للأمطار بشكل مستمر، بل الثلوج في أوقات متفاوتة مثلما تشهده مدن كثيرة في أوروبا، إلا أن أشكال البناء العمارة لم تتطور لمواجهة هذه الحقيقة كما تطورت هناك. لقد كان تأثير الفراغ الإداري واضحا والأثر السلبي للأسواق جليا في الفكر الاقتصادي للمنطقة، بل امتد حتى اليوم، ولو تم تصوير مشهد السوق فكل ما ستجده هو عدد قليل جدا من المحال الثابتة التي على أصحابها الانتظار حتى يوم السوق "الثلاثاء - مثلا" للفوز ببعض الانتعاش، مع حضور أهالي القرى المزارعين في مشهد غير منظم، ومن الصعب بناء تصور اقتصادي عن حركة الأسعار، فالمقايضة تمنع ذلك، وبالتأكيد لم يكن هناك أي فرصة لظهور الشركات، أو الكيانات الاقتصادية. فلم تنشأ حركة تجارية في المنطقة نظرا إلى عدم انتشار ثقافة الفكر الإداري فيها، وهذا وجد امتداد له في الثقافة التجارية في المنطقة كما سأوضح لاحقا. من المهم وضع هذا التصور أمام القارئ بكل ما فيه من نقد، لأنه سيكون المرتكز لما سيتبع من مقالات.
إنشرها