المسافة الآمنة .. التحديات والتوازن

تقول القاعدة الشهيرة في قيادة السيارات يجب أن تترك مسافة كافية بينك وبين السيارة التي أمامك حتى لا يحدث التصادم المفاجئ. تبنى هذه القاعدة على قياس الخطر وتوقعه والقيام بإجراء محدد لتفاديه أو التقليل من نسبة حدوثه. وهناك طرق مختلفة لتقدير المسافة الآمنة بين السيارات، منها ما يسمى قاعدة الثلاث ثوان ومنها ما يحدد بالأمتار حسب السرعة. وعلى الرغم من أن التزامنا بقاعدة المسافة الآمنة ضعيف كما نرى في الشوارع، إلا أننا في الحياة نضع دائما مسافة آمنة بيننا وبين ما يثير مخاوفنا. مسافة آمنة ضد التصادم مع الآخرين، مسافة آمنة ضد الفشل والسقوط، مسافة آمنة ضد الانكشاف أمام الآخرين، مسافة آمنة ضد الجديد والغريب.
يضع قانون قيادة السيارات جزاءات لمن يخالف قانون المسافة الآمنة، ومن ضمنها، أن المخالف في حالة التصادم هي السيارة التي تكون في الخلف، لأن قائدها هو من يتحكم في المسافة الآمنة بينه وبين من يسبقه. في الحياة أعتقد أن القوانين التي تعاقب بشكل مباشر من لا يتبع قوانين المسافة الآمنة ضعيفة، لكنها طبيعية عفوية، فالجزاء دائما على قدر العمل.
من التحديات التي تسبب الازدحام والتصادم أخذ مسافة آمنة أكثر من المطلوب، هناك من يقود سيارته ويبالغ في الحذر حتى يتحول إلى عنق زجاجة ضيق في الطريق، فتجد العالم من بعده متراكما، وهو في حالة نشاز مع من يسبقه ومن يقود من وراءه.
مثل هؤلاء، يتسببون في إرباك للشارع، لماذا؟ لأن القيادة في شارع واحد عملية تعاونية متناسقة، إذا أخل طرف بسلوكه اختل التوازن وحدثت المفاجآت. وفي الحياة تجدهم كذلك، فهم أنفسهم الذين "يمشون بجوار السور" ويظنون أنهم لا يؤذون أحدا، لكنهم في الحقيقة في عدم تفاعلهم بناء للمطبات للكتلة الأكبر، هم عبارة عن عناصر ازدحام، عناصر تأخر، وربما مصدر للحوادث المفاجئة.
تقدير المسافة الآمنة قائم على فهم ظروف الآخرين، ظروف المسار، حجم الخطر المتوقع، وعلى القدرات الذاتية. لهذا، من يرى نفسه متميزا في القيادة أو مسيطرا على سيارته، لا يجوز له أن يقول أنا لا أحتاج إلى مسافة آمنة. هؤلاء معروفون بالمتهورين الذين دائما ما يضعون أنفسهم وغيرهم في مواقف محرجة، ودائما ما يتسببون في الضرر على أكثر من طرف. في العمل والمنزل حتى أثناء ممارسة الهوايات والرياضة نجد مثل هؤلاء. عندما يضعف فهم أو تقدير عنصر واحد فقط، يحدث الخلل في تقدير المسافة الآمنة، سواء من فهم الذات أو تقدير ظروف الغير أو تقدير وفهم السياق. هناك متهورون في إدارة المشاريع وهناك من يجعل فريقه يخسر بسبب تعجله أو تهوره. تقدير العواقب والالتزام بالقواعد هو ما يرفع من نسبة تفادي الخطر.
من يبحث في الإنترنت عن قواعد المسافة الآمنة سيجد أن هناك أكثر من مسافة آمنة يطرح النقاش حولها، المسافة الآمنة بين السيارات والمسافة الآمنة من خطوط الضغط العالي والمسافة الآمنة للتصوير الإشعاعي والمسافة الآمنة للوقاية من كورونا، والقواعد تختلف باختلاف طبيعة الخطر. الحصول على النتائج يعني الاقتراب من مكامن الخطر، فالاحتكاك بالناس ضروري اجتماعيا لكنه قد يكون مكلفا صحيا، والحصول على عينات نادرة يعني ربما صعود قمم الجبال، وتحقيق الذات قد يعني الظهور أمام الناس في محافل كبرى والتعرض لمخاطر الانكشاف أو السخرية، الحديث في تويتر يكشف جزءا من حقيقة الشخص، لذا يحتفظ كثيرون بمسافة آمنة تحميه وقد تخفيه تماما، فيتحول من مشارك متفاعل إلى مستمع سلبي.
يقول الشاعر:
من يتهيب صعود الجبال
يعش أبدا بين الحفر
وهذا توصيف جيد للمبالغة في الاحتفاظ بمسافة آمنة تجعل الشخص يختفي في القاع. سنجد ذلك في التعلم والممارسة والاحتكاك والتفاعل حتى في حصول الشخص على حقوقه. القاعدة واحدة، التطبيق يختلف حسب الخطر. جميعا وفي كل ممارساتنا ندير مخاطرنا بطريقة ما، البعض موفق بالاقتراب من التوازن الذي يحقق له النتائج، والآخر غير موفق بالخسائر والتهور أو بالابتعاد والتقوقع، والنتيجة دوما على قدر العمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي