Author

أوروبا .. انقلبت الطاولة

|
أستاذ جامعي ـ السويد
يا للغرابة! لقد قلبت الطاولة وفي انقلابها صارت الدول في أوروبا تتحسس رؤوسها.
لا شك، أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والحرب المدمرة التي ميدانها حتى الآن الأراضي الأوكرانية، قلبت الطاولة وكل ما عليها على رؤوس الجالسين حولها وتحتها.
وبودي شرح، ولو بإيجاز شديد، مصطلح "قلب أو يقلب الطاولة" الذي لا أظن منشأه لغة الضاد، بل هو جزء من اللغة أو الخطاب الذي استعاره العرب في العصر الحديث من اللغة الإنجليزية عند ترجمتهم لعبارة to turn the tables.
وتشير العبارة هذه، حسب معجم جامعة كمبردج، إلى تغيير في الحالة أو الوضع أو الواقع الذي نحن فيه الآن بحيث يصير قصب السبق أو الأفضلية أو التفوق في يدنا وتحت تصرفنا بعدما كان في يد غريمنا.
قد يكون هذا المصطلح واحدا من أكثر المصطلحات رواجا في وسائل الإعلام بشتى أصنافها منذ بداية الحرب في الـ24 من شباط (فبراير) الماضي حتى الآن.
ويبدو أن الطاولة التي انقلبت لم تحتو صنفا واحدا من الطعام، بل كان عليها تشكيلة من الأطعمة الأساسية التي لا تسير الحياة دونها.
وكل ما عليها قلبت موازينه وتحول إلى سلاح في المعركة ربما أشد فتكا من الأسلحة التي يتبارز فيها القطبان ـ روسيا من جهة وأمريكا وحلفاؤها من جهة أخرى ـ على الأرض الأوكرانية.
وإن استأثرت أخبار الحرب في أوكرانيا على واجهات الصحف ووسائل الإعلام وجداول أعمال الساسة في الغرب في الأشهر الأولى منذ انطلاقها، فإن وهج العمليات العسكرية وتغطيتها الإخبارية بدأ يخفت رغم أن شراسة المعارك لا تزال في ضراوتها.
ويبدو أن ما قلبته الطاولة على الرؤوس، ليس فقط العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ونشوب نزاع دموي يعد الأسوأ منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في القارة الأوروبية، بل شؤون أخرى ربما لم تكن بالحسبان ولم يدر في خلد أمهر المحللين أنها ستصبح أصدق أنباء من السلاح.
يقحم الغرب ومعه روسيا أحدث ترساناتهم العسكرية في المعركة، وصرنا نقرأ أو نسمع عن أسلحة مهولة ذات فتك لا سابق لها مع أرجحية اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل.
مع ذلك، يبدو أن الغرب ومعه روسيا غير مكترثين لسيل الدماء واستخدام أسلحتهم المدمرة والدقيقة دون حد ورقيب.
أدخل الصراع أسلحة أخرى في المعركة، وفي مقدمتها النفط والغاز والقمح ومواد غذائية أساسية أخرى.
ودخلت مفردة «المجاعة» الخطاب الذي يرافق الحرب، وصار العالم يخشى أن يقع مئات الملايين من البشر ضحية عدم توافر الغذاء بعد أن قلبت الحرب في أوكرانيا الطاولة، وكل هؤلاء الضحايا لا ناقة ولا جمل لهم بهذه الحرب والاستراتيجيات التي ترافقها.
ولم يبق أي شيء كان على الطاولة المقلوبة على حاله، إلى درجة أن ما كان الحصول عليه بوفرة وسعر متاح ومن المسلمات صار أشبه بالعملة النادرة.
قادة العالم «الحر» وأقطاب العالم يتخذون الحصار سلاحا لردع بعضهما بعضا، ولكسب حرب قد تسحق رحاها العالم.
وعندما يشتكي فقراء العالم ـ وأغلب المليارات الثمانية من البشر فقراء ـ أن القمح صار شحيحا، وأن أوضاعهم المعاشية والمالية لا تمكنهم شراءه بالأسعار الحالية، يعيد أقطاب العالم «الحر» قلب الطاولة على الرؤوس مرة أخرى، وهذه المرة من خلال حجج واهية عن السبب والمسبب.
وانقلب مع الطاولة كثير من الموازين، منها موازين المنطق وإشغال العقل إلى درجة أن دولة مثل السويد التي كانت تتباهى، لا بل يتباهى العالم بها، لرجاحة عقلها وحياديتها وجنحها للسلام قلبتها الطاولة على عقب أيضا.
وأخطر ما أحدثته الطاولة المقلوبة هو أننا صرنا نعيش في عالم أصبح فيه الكيل بالميزان والقسط أقرب إلى المستحيل، حيث صارت الدول الأوروبية والغربية تبخس الناس بصورة عامة، حتى ناسها بصورة خاصة، أشياءها.
وانقلاب الطاولة نتج عنه انقلاب في المعايير، منها ما يتعلق بالأخلاق، ومنها ما يرتبط بالسلع الاستراتيجية، مثل النفط وأسعار العملات والتعامل بين الدول.
قبل عامين ونيف، كان تجار النفط في أمريكا على استعداد لدفع مبالغ قد تصل إلى 40 دولارا للبرميل، للتخلص مما بحوزتهم من نفط بعد انهيار أسعاره إلى ما دون الصفر.
بعد انقلاب الطاولة، صار النفط والغاز العملة النادرة والسلاح الأكثر تأثيرا في الحرب، حيث ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية يرى الغرب ذاته أمام قوة تبدو قاهرة تجعل دولة جبارة، مثل ألمانيا، تهتز مثل الريش أمام ريح شحة الوقود الأحفوري وارتفاع أسعاره. نعم الحرب في أوروبا قلبت الطاولة، لكن ليس لمرة واحدة، بل لمرات عدة والحبل على الجرار.
إنشرها