هل تضع الفلبين كل بيضها في السلة الصينية؟

في مقال سابق، قلنا إن الرئيس الفلبيني المنتخب حديثا بونغ بونغ ماركوس، يعتزم حل مشكلات بلاده الاقتصادية الخانقة بالاقتراب أكثر من الصين والاعتماد على مساعداتها واستثماراتها الخارجية، وذلك على حساب علاقات بلاده التقليدية الطويلة مع الولايات المتحدة، وحليفات الأخيرة في الشرق الآسيوي.
وأول الأسئلة الذي يتبادر إلى الذهن، هو كيف سيوفق ماركوس بين هذا التوجه وبين علاقات بلاده مع اليابان التي تنظر إلى الصين وسياساتها التوسعية في المحيطين الهندي والهادئ بعين الشك والريبة، بل تعمل، بالتحالف مع دول أخرى، على كبح جماح الصعود والنفوذ الصيني. بعبارة أخرى، كيف ستتصرف مانيلا إزاء أي رد فعل ياباني غاضب، خصوصا إذا ما أخذنا في الحسبان أن اليابان هي من أكثر الدول التي ساندت الفلبين اقتصاديا وتنمويا على مر العقود والعهود، فضلا عن أن البلدين مرتبطان باتفاقيات أمنية ودفاعية ضمن تحالفهما مع الولايات المتحدة، وهو ما تجلى أخيرا في انعقاد أول اجتماع من نوعه في طوكيو بين وزيري الخارجية والدفاع في البلدين. هذا الاجتماع غير المسبوق الذي اختتم بصدور بيان مشترك يتناقض مع توجهات مانيلا الجديدة، حيث اشتمل البيان على إعراب البلدين عن خشيتهما من تفاقم الأوضاع في بحري الصين الشرقي والجنوبي، ورفضهما أي خطوات أحادية الجانب من قبل الصين، تؤثر سلبا في الأمن والاستقرار في المنطقة.
دعونا نقوم بجرد لما قدمته طوكيو لمانيلا منذ 1956 حينما طبع البلدان علاقاتهما الثنائية وأبرما اتفاقية حصلت مانيلا بموجبها على تعويضات الحرب، ما مهد الطريق للمستثمرين اليابانيين بالعودة مع نهايات الخمسينيات، ونقارنه بالمساعدات الصينية التي قال عنها بنجامين ديوكنو "أقرب مساعدي ماركوس الاقتصاديين ومرشحه الأبرز لتولي حقيبة المالية"، "بكين كثيرا ما وعدت بضخ الاستثمارات الضخمة في الفلبين، لكنها لم تف بوعودها إلا قليلا"، مضيفا ما مفاده أن الصينيين لم يلتزموا حتى بتنفيذ نظام حديث للسكك الحديدية في جزيرة مندناو الجنوبية، كانوا قد وعدوا به تحت إلحاح الحكومة الفلبينية.
بعد زيارة الرئيس الفلبيني الأسبق فرديناند ماركوس "والد الرئيس المنتخب" لليابان في 1966، وزيارة الزعيم الياباني الأسبق كاكوي تاناكا للفلبين في 1972 توطدت علاقات البلدين كثيرا إلى درجة أن اليابان قامت بتمويل مشاريع عديدة آنذاك في الفلبين شملت بناء جسر سان خوانيكو، ومعهد أبحاث الطب الاستوائي، وغيرهما، علاوة على حصول الفلبين على قروض معتبرة من صندوق اليابان للتعاون الاقتصادي الخارجي.
بعد سقوط نظام ماركوس الأب في 1986، كانت اليابان من أوائل الدول التي أعربت عن دعمها للحكومة الفلبينية الجديدة بقيادة كورازون أكينو. وظلت طوكيو مصدرا رئيسا للمساعدات المقدمة لصناديق التنمية، والتجارة، والاستثمار والسياحة الفلبينية طوال عقد الثمانينيات. وحينما انسحبت معظم القوات الأمريكية من قواعدها في الفلبين، بعد تصويت برلماني بعدم التمديد لها، قامت اليابان بسد الفجوة الدفاعية التي تركها الأمريكيون.
وفي التسعينيات برزت اليابان كأكبر جهة مانحة للفلبين، تلتها الولايات المتحدة وألمانيا، فأسهمت المساعدات والهبات اليابانية في التخفيف من معاناة الفلبينيين المتضررين من زلزال لوزون في 1990، وثوران جبل بيناتوبو البركاني في 1991. علاوة على ذلك، وكنوع من الدعم لجهود حل التمرد الإسلامي في جنوب الفلبيني، زودت طوكيو مانيلا في 2013 بعشر سفن بقيمة 11 مليون دولار لمصلحة خفر السواحل الفلبيني، خصوصا بعد شكوى مانيلا من خروقات صينية لمياهها الإقليمية. وفي 2015 قدمت الوكالة اليابانية للتعاون الدولي قرضا بقيمة ملياري دولار "أكبر قرض على الإطلاق تقدمه اليابان لمشروع واحد في دولة أخرى" لبناء أكبر نظام للسكك الحديدية في الفلبين. وفي 2016 وقع البلدان اتفاقية حصلت الفلبين بموجبها على معدات دفاعية وتكنولوجية منها مدمرتان بحريتان. وتلت تلك الاتفاقية اتفاقية أخرى لتزويد الفلبين برادارات متطورة من إنتاج شركة ميتسوبيشي اليابانية المعروفة. وفي الوقت نفسه صارت اليابان وجهة رئيسة للصادرات الفلبينية من السلع الزراعية والكمالية.
والحقيقة التي تسندها الأرقام هي أن اليابان تغلبت على الصين من حيث التعهدات الجديدة باستثمارات كبيرة في البنية التحتية، بما في ذلك مشروع مترو الأنفاق في مانيلا، ومشروع السكك الحديدية بين الشمال والجنوب، اللذان تبلغ تكلفتهما عدة مليارات من الدولارات. وجملة القول، إن تعهدات الاستثمار اليابانية الجديدة في الفلبين "29 مليار دولار" أكبر بأربعة أضعاف من التعهدات الصينية "ثمانية مليارات دولار"، ما يعني أن الرئيس الجديد سيخاطر بمصالح بلاده لو قرر وضع كل بيضه في السلة الصينية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي