Author

الحرب في أوروبا ومزاج الناس

|
أستاذ جامعي ـ السويد
بعد مضي أكثر من 100 يوم على أكثر الحروب دمارا وتأثيرا في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، قلما نقرأ في الصحافة الغربية عن التأثير المباشر أو غير المباشر الذي أحدثته في مزاج الناس.
أغلب ما يقع عليه ناظرنا يتركز على أخبار المعارك والتحليلات عن سيرها والتوقعات عمن سيهزم أو سينتصر. وفي خضم السيل الجارف من الخطاب الإعلامي الذي رافق ولا يزال الحرب الدامية في أوكرانيا، تأخذ أخبار النفط والغاز أو الطاقة عموما حصة الأسد.
وفي ثنايا هذا الكم الخطابي الكثيف الذي يرافق كل وسائل الإعلام تقريبا بشتى مضاميرها وتوجهاتها، نقرأ بين الفينة والأخرى عن آراء ووجهات نظر الناس العاديين، خصوصا ضحايا الحرب في أوكرانيا. لكن ماذا عن مزاج الناس في الدول الأوروبية الغربية التي تقف بقوة وصرامة مع أوكرانيا؟ هذا من النادر أن نقرأ عنه غير أننا نحسه من خلال الحديث العادي والحوار والقراءة بين السطور.
لا أعلم لماذا قل تهافت الإعلام على الكتابة عن مزاج الناس العاديين، رغم أن المناهج الجامعية الخاصة في كليات الصحافة والإعلام تدرس هذا الموضوع المهم ضمن مقررات الكتابة لوسائل الإعلام.
ولها في الإنجليزية مصطلح خاص نطلق عليه mood articles، أي الكتابة لوسائل الإعلام التي تعنى بمزاج الناس أو وجهات نظرهم وميولهم، خارج نطاق الاستبيانات الكمية، عما يفكر به الناس العاديون وما يستشعرون حول خبر ذي قيمة، ولا أظن هناك خبرا أو حدثا يرقى في أهميته وقيمته للصحافة والإعلام مثل الحرب المستعرة حاليا في أوروبا.
وفي غياب كتابة رصينة حول مزاج وميول الناس وما يتحدثون به، أرى أن هناك وسيلة ناجعة للوصول إلى ما يدور في خلدهم حول هذه الحرب.
الطريقة المثلى تكمن في التواصل مع الناس والدخول في نقاشات معهم، وهذه الوسيلة لعمري، هي أفضل السبل للوصول إلى أعماق النفس الإنسانية وتوجهاتها.
وبعد أن نفضنا غبار الجائحة عن كاهلنا، صار السفر متاحا وحضور المؤتمرات العلمية الأكاديمية أمرا يسيرا بعد انقطاع دام عامين ونيف العام.
والمؤتمرات العلمية في الغرب غالبا ما تكون عالمية التوجه، بيد أن الأغلبية الساحقة من المؤتمرين يقبلون من الدول الغربية حيث تشجع وتمول الجامعات هناك هيئات تدريسها الحضور والمشاركة الفعالة.
وفي آخر مؤتمر حضرته، كان هناك مئات من العلماء والباحثين جلهم من الدول الغربية.
وفي مؤتمرات مثل هذه كنا في السابق (أي قبل نشوب الحرب) نناقش المستجدات العلمية في الأوراق المقدمة ومدى أهميتها للمسيرة العلمية في حقلي الصحافة والإعلام.
في هذا المؤتمر، لم ألتق باحثا ولم نجتمع على طاولة مستديرة أو طاولة طعام إلا وكان حديث الحرب مع تبعاتها حاضرا.
وفي الحقيقة، لم يقتصر أمر الحرب ومآلاتها وما تفرزه من تغيير في المزاج العام وأسلوب الحياة على الحديث العام والعفوي، بل قرئت على مسامعنا أبحاث رصينة عن التغطية الإعلامية للحرب.
وأتذكر كيف أن بعض الباحثين الشباب فككوا خطاب زعماء غربيين وما نطقوه أو كتبوه حول الحرب وأظهروا لنا أحيانا تخبطهم وعدم صدقهم والتعارض الظاهر في أقوالهم وكيف أن الخطاب السياسي يؤطر وينمط وكيف أن الصحافة والإعلام يأخذانه على علاته.
وكانت هناك أبحاث عن التغطية الإعلامية للحرب وكيف أن وسائل وقنوات إعلامية ذات باع تقع فريسة سهلة للأخبار والصور الكاذبة وكيف أن خطابها يبتعد عن النزاهة.
ما استشففته بعد حضوري هذا المؤتمر ومراجعة ملاحظاتي هو أن الحرب لم تؤثر في مسالك التجارة العالمية والأسعار والتحالفات وتوافر المواد الغذائية الأساسية فحسب، بل غيرت مزاج الناس ومادة الحديث والنقاش بينهم.
إن أردنا تلخيص المحاور الأساسية للحياة العامة ومزاج الناس في الغرب التي أثرت فيها الحرب تأثيرا جليا، فإننا، حسب ظني، نكون أمام ستة محاور:
الأول يتعلق بالمستقبل الذي لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية يراه الناس هنا قاتما.
الثاني يدور حول الأسعار خصوصا المواد الأساسية التي كان الناس هنا يأخذونها كأمر مفروغ منه ومتوافر ومتاح، تقدر على شرائه على الدوام.
الثالث يتركز حول أسعار الطاقة خصوصا فواتير الكهرباء وما يكلفه ملء خزان الوقود للسيارة الشخصية.
الرابع يتحلق حول المبادرات الشخصية لتخفيف وقع ما تتركه الحرب على الناس من منغصات ومشكلات وأعباء مالية.
الخامس يشدد على الموقف من الحرب ذاتها وعلى من يقع اللوم في تبدد أمن قارة لم تحصل عليه إلا بعد حربين عالميتين راح ضحيتهما عشرات الملايين من الناس.
السادس والأخير، وهو الأكثر إثارة للقلق، ينصب على متى وكيف ستضع هذه الحرب أوزارها؟.
وأرى أن كل محور من هذه المحاور الستة يستحق الوقوف عنده ومن ثم تمحيصه في المقبل من الأيام.
إنشرها