Author

رباعية .. العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات

|

عندما نتساءل: كيف تغير العالم؟ أو ربما كيف يتغير العالم؟ نجد أنفسنا عائدين إلى انطلاق الثورة الصناعية الأولى في القرن الـ 18، ونجد أنفسنا شاهدين حاليا على أحداث الثورة الصناعية الرابعة، وربما بدايات الثورة الصناعية الخامسة. إنها التقنية التي تبني، وإنها الهندسة التي تمكن التقنية، وإنها أيضا العلوم التي ترفد الهندسة وتثريها، ثم إنها الرياضيات، لغة العلم التي تنظم التفكير، وتعزز المنطق، وتبحث في الأدلة، وتستنبط الأفكار، وتعبر عنها بعمق ودقة. ولا شك أن كل ذلك يعود إلى عاملين رئيسين: العقل البشري الذي ميز الله تعالى به الإنسان، والطبيعة التي سخرها له، يلاحظ ظواهرها، ويطلق خياله وفكره بشأنها، ليستخلص من ذلك المعرفة، ويسعى إلى تطبيقها، وتقديم معطيات متجددة، تغير بيئة الحياة التي يعيشها نحو الأفضل.
يسعى هذا المقال، مع المقالين المقبلين - بمشيئة الله - أيضا، إلى طرح مسألة اهتمام العالم بالموضوعات الأربعة: العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات STEM، وبيان مضامين هذه الموضوعات، وإظهار فوائدها، وإبراز دورها في التنمية الاقتصادية التي نتطلع إليها، ونأمل تحقيقها.
تشمل مسألة اهتمام العالم برباعية موضوعات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات أربعة محاور رئيسة: أول هذه المحاور هو محور الاهتمام الثقافي بهذه الموضوعات، وهو محور يتمتع بتأثير كبير في المجتمع، لأنه يوجه وعي الإنسان، ويؤثر في تفكيره، وربما يقود سلوكه. أما المحور الثاني، فهو محور الاهتمام بإعداد الناشئة، وتشجيعهم على التنافس في مجالات هذه الموضوعات، والإقبال على تخصصاتها. ونأتي إلى المحور الثالث، وهو محور الاهتمام بتأهيل المختصين، وتأمين الكوادر الوطنية اللازمة للاستفادة من معطيات هذه الموضوعات. ونصل إلى المحور الرابع، وهو محور الاهتمام بالبحث العلمي والإبداع والابتكار المسؤول عن العطاء المعرفي في مجالاتها، إضافة إلى تحويل هذا العطاء إلى قيمة مادية تحتاج إليها التنمية المطلوبة.
هناك مظاهر وأدلة على ما تشهده الموضوعات الأربعة من اهتمام في إطار كل من محاور الاهتمام الأربعة. وسنقدم في التالي بعض الأمثلة على ذلك. في محور الثقافة، ذكرنا في مقال سابق، أن جمعية العلوم الأمريكية التي أنشئت عام 1921، أي: قبل أكثر من قرن، تبنت هدفا ثقافيا تمثل في نقل التطورات والاكتشافات العلمية، الجارية مع الزمن إلى الجميع، في أمريكا. وتوسع نشاط هذه الجمعية بعد ذلك ليشمل العالم بأسره، بمساعدة عدد من المؤسسات العاملة في موضوعات العلوم والتقنية، مثل شركة Intel، العاملة في مجال الشرائح الإلكترونية. واهتمت المملكة بالثقافة العلمية، حيث تم عام 1431، وبرعاية مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وجهات أخرى، وضع استراتيجية وطنية سعودية لنشر الثقافة العلمية. ومن دواعي سروري أنني كنت بين أعضاء اللجنة التي عملت على ذلك.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الثقافة العلمية لا تتمثل فقط في التعرف على معطيات التطور المعرفي المتجدد في الموضوعات الأربعة، بل إنها تتمثل أيضا في تفعيل التفكير العلمي في مختلف مجالات الحياة. ويشمل مثل هذا التفكير الاهتمام بالسببية في طرح أمور الحياة، وتوخي التطوير نحو الأفضل، عبر النقد البناء، والخروج من الصندوق في حل المشكلات المختلفة، فضلا عن التوجه نحو الإبداع والابتكار في شتى مجالات الحياة.
وننتقل إلى محور إعداد الناشئة، حيث تجري على المستويين الوطني والدولي مسابقات بين طلاب وطالبات المدارس من مختلف دول العالم في الموضوعات الأربعة. وتكمن أهمية مثل هذه المسابقات في أنها تسهم في تشجيع التعليم العام وتحفيز الناشئة على إعطاء هذه الموضوعات اهتماما أكبر، وتفعيل إمكاناتهم وإبرازها في المسابقات، ما يعزز آفاق الحماس لديهم إلى التميز والعطاء في المستقبل. ومن أبرز هذه المسابقات على المستوى الوطني: مسابقة الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي «إبداع» التي تقيمها مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع «موهبة»، بالتعاون مع جهات أخرى داعمة لهذا الموضوع.
ولعل من أبرز المسابقات الدولية المعنية بهذا المجال "برنامج تقييم الطلاب الدولي PISA" الذي يتلقى الرعاية من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD. ويركز البرنامج على تقييم الطلاب والطالبات في سن الـ 15 عاما، في مجالات القراءة، والرياضيات، والمعرفة والمهارات العلمية، على أساس أن إعداد الناشئة في هذه المجالات يمثل استجابة لتحديات الحياة على أرض الواقع. وتستخدم نتائج هذا التقييم كمؤشر على مستوى التعليم في الدول المختلفة، وذلك ضمن دليل الابتكار العالمي GII الذي يتضمن 80 مؤشرا. ولا شك أن من أهم المسابقات أيضا مسابقات المعرض الدولي للعلوم والهندسة ISEF، الذي تديره الجمعية العلمية الأمريكية سابقة الذكر، وفاز أبناؤنا، من طلاب وطالبات المدارس، هذا العام في، مسابقاتها بـ 21 جائزة تغطي مجالات عديدة من مجالات الموضوعات الأربعة.
ونأتي إلى محور اهتمام العالم بتأهيل المختصين في الموضوعات الأربعة، ونقدم في هذا الشأن مثالا على ذلك. فهناك، في هذا المجال، مؤشر وضعته اليونيسكو UNESCO، مهمته تحديد نسبة خريجي التعليم العالي في موضوعات العلوم والهندسة، إلى مجمل الخريجين في جميع الموضوعات. ويدخل هذا المؤشر في دليل الابتكار العالمي GII، سابق الذكر، حيث يطلب الاهتمام بارتفاع هذه النسبة كوسيلة لتفعيل الابتكار وتعزيز التنمية.
ونصل إلى اهتمام العالم بالبحث العلمي والإبداع والابتكار، وهناك في هذا المجال مؤشرات أخرى صادرة عن "اليونيسكو" أيضا، تهتم ليس بالإنفاق، أو بالأحرى الاستثمار في البحث العلمي فقط، بل بتوزع هذا الاستثمار على الموضوعات المختلفة. ويلاحظ هنا أن للموضوعات الأربعة في هذا الاستثمار الحصة الأكبر في الدول المتقدمة، والدول سريعة التقدم، نظرا لأن مردود الاستثمار في هذه الموضوعات مشهود اقتصاديا، وإسهامه في التنمية الاقتصادية أكبر.
يهتم جميع الدول بالموضوعات الأربعة المطروحة هنا، لكن هذا الاهتمام يأتي بدرجات مختلفة، فهو الأعلى في الدول الصناعية التقليدية، والدولة الصاعدة المنافسة لها. ولا شك أن هناك دلائل كثيرة على اهتمامنا نحن بهذه الموضوعات أيضا، لكن مسيرة المستقبل نحو تحقيق التنمية المستدامة تدعونا إلى مزيد.

إنشرها