Author

تعاف قياسي للروبل الروسي

|
كان الروبل الروسي يسجل معدلات صرف في حدود 75 روبلا للدولار الواحد قبل بداية الحرب الأوكرانية نهاية شباط (فبراير) الماضي. وقاد نشوب الحرب إلى فرض عقوبات اقتصادية قوية على روسيا وأغنيائها، ما ضغط بقوة على الاقتصاد الروسي وهوى بمعدل صرف الروبل حتى تدنى إلى نحو 136 روبلا للدولار في العاشر من آذار (مارس) الماضي. بعد ذلك وعلى النقيض من التوقعات، بدأت مسيرة تعافي الروبل حتى استعاد مستوياته السابقة للحرب عند نهاية نيسان (أبريل) الماضي.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد أخذ سعر الروبل يتجاوز مستويات ما قبل الأزمة. وارتفع سعره مع مرور الوقت حتى حقق عند نهاية أيار (مايو) مستويات لم يصل إليها منذ عامين، حين بلغ نحو 56 روبلا للدولار، وبتحسن قارب 25 في المائة عن مستويات ما قبل الأزمة. أما في الآونة الأخيرة فقد تراجعت معدلات صرفه إلى نطاق الستينات روبلا للدولار.
فرض العقوبات على روسيا وأغنيائها دفع معظمهم إلى تحويل أموالهم إلى أصول وأماكن غير خاضعة للرقابة، كالعملات الرقمية أو الدول غير المشاركة في العقوبات أو المناوئة للسياسات الغربية. ولا بد أن فترات العقوبات المتعددة وطويلة الأجل التي تعرضت لها روسيا أكسبتها خبرات ودفعتها لتطوير طرق التقليل من آثارها. وخيب التحسن الملحوظ في أسعار الصرف جهود كثير من فارضي العقوبات وبدد آمالهم بتدهور معدلات صرف الروبل، التي كانت سترفع معدلات التضخم داخل روسيا وتزيد حدة الضغوط المعيشية على السكان. والمعلوم أن ارتفاع تكاليف المعيشة يولد ضغوطا على السكان ويزيد التذمر والمعارضة بينهم، ولو ساءت الأمور قد يدفع إلى القلاقل الاجتماعية والسياسية.
تحدد علاقة العرض والطلب على العملات أسعارها، فكلما فاق الطلب على العملة عرضها ارتفعت أسعارها. وتحاول السياسات التأثير في أحد المتغيرين "العرض والطلب" أو كليهما. وتقف سياسات رفع الطلب وخفض العرض خلف تعافي الروبل الروسي وتحسن مستوياته الأخيرة. وتبنت الحكومة الروسية والبنك المركزي الروسي سياسات قوية للحد من تراجع الروبل والتحكم في معدلات صرفه، وكان دور الأسواق الحرة محدودا في تحسين أسعاره. وتستخدم البنوك المركزية أدوات متعددة للتدخل في أسواق الصرف وتعديل أسعار تبادلها. وركز البنك المركزي الروسي في دعم أسعار الصرف على استخدام أداتين مهمتين تؤثران في أسعار الصرف، وهما معدلات الفائدة الأساسية وحركة رؤوس الأموال الداخلة للبلاد والخارجة منها. وكانت أولى هذه الخطوات رفع معدلات الفائدة الأساسية دفعة واحدة من 9.5 في المائة إلى 20 في المائة. واستهدف البنك المركزي من رفع معدلات الفائدة الأساسية التأثير في معدلات الفائدة طويلة الأجل وتحفيز الاحتفاظ بالعملة وزيادة جاذبيتها للمستثمرين المحليين والأجانب. لكن الخطوة الأبرز لدعم العملة كانت فرض قيود على حركة رؤوس الأموال إلى خارج روسيا، حيث فرض شبه تجميد لتدفق السيولة خارج البلاد، كما رفع متطلبات تحويل قيم الصادرات للروبل على المصدرين الروس إلى 80 في المائة من قيمها، إضافة إلى ذلك وضع حدودا قصوى للتحويلات إلى الخارج. وتم منع المستثمرين الأجانب من تحويل أي أرباح أو أموال أو قيم أصول إلى خارج روسيا. إضافة إلى ذلك، دعم اشتراط روسيا دفع صادراتها من الطاقة بالروبل الطلب عليه.
دعم تحسن أسعار المواد الأولية، وخصوصا النفط والغاز وباقي المواد الأولية والسلع الروسية، الطلب على الروبل الروسي. وتتشكل صادرات روسيا بشكل أساسي من المواد الأولية، كمنتجات الطاقة والمعادن والسلع الزراعية. من جهة أخرى، تسببت العقوبات الغربية على روسيا في تراجع الواردات، ما رفع فائض الميزان التجاري الروسي. وسجلت روسيا فائضا كبيرا في الحساب الجاري لفترة الأشهر الأربعة الأولى من العام يقارب 100 مليار دولار.
في الجانب المقابل، ولد ارتفاع سعر الروبل صعوبات أخرى للاقتصاد الروسي، حيث خفض إيرادات الحكومة التي تتأثر بقيم الصادرات المسعرة بالدولار أو اليورو. كما أنه رفع تكاليف الصادرات الروسية لباقي العالم، ما أثر سلبا في طلبها الخارجي. وبعد الصعود القوي للروبل خفف البنك المركزي الروسي القيود المفروضة على حركة رؤوس الأموال، حيث خفض متطلبات تحويل للعملة الروسية إلى 50 في المائة من قيمها، وخفض أيضا معدلات الفائدة الأساسية على ثلاث دفعات حتى بلغت أخيرا 11 في المائة، ورفع حدود التحويلات الفردية. ويعمل في روسيا ملايين الأفراد القادم معظمهم من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة. ويحاول البنك المركزي الروسي تخفيف القيود عن حركة رؤوس الأموال للحد من تصاعد قيمة الروبل، لكن بحذر شديد خوفا من هروب رؤوس الأموال إلى الخارج بكميات ضخمة.
تستطيع السلطات النقدية دعم العملة لفترة من الزمن من خلال أدوات دعمها الرئيسة المتمثلة في بيع النقد الأجنبي أو زيادة معدلات الفائدة أو القيود على حركة رؤوس الأموال. لكن قدرتها على الاستمرار تتوقف على حجم مواردها وموارد البلاد الاقتصادية التي قد تستنزف خلال فترة زمنية معينة. كما أن هذه الأدوات لها أضرار على الاقتصاد، حيث يقود رفع معدلات الفائدة الأساسية مثلا إلى تراجع النشاط الاقتصادي وربما الركود والحد من النمو ورفع تكاليف خدمة الدين الحكومي وخفض الإيرادات الحكومية. لكن الاختبار الحقيقي لنجاح هذه الإجراءات يأتي عندما ترفع القيود على حركة رؤوس الأموال.
إنشرها