التضخم وأسعار الفائدة .. لا وصفة مضمونة النتائج
تعد استقلالية البنوك المركزية واحدة من القواعد المستقرة في النظم الرأسمالية المتقدمة.
وتظهر الاستقلالية في تمتع محافظي البنوك المركزية بحرية رسم وتنفيذ السياسة النقدية من خلال تحديد الأهداف واختيار الأدوات المناسبة لتحقيقها، شريطة أن تكون منسجمة ومتسقة مع السياسة الاقتصادية العامة، التي ترمي الحكومات لتحقيقها في المجال الاقتصادي، لكن البنوك المركزية تتخذ في نهاية المطاف قراراتها باستقلالية ولا تملى عليه تلك القرارات.
هذا تحديدا ما يجعل لقاء القادة أو الزعماء في الدول المتقدمة بمحافظي البنوك المركزية لقاء نادر الحدوث، فما بالك إذا كان اللقاء ثلاثي الأطراف الرئيس ووزيرة المالية ومحافظ البنك المركزي، لقاء من هذا النوع يكشف أن هناك تطورات مهمة وآنية يجب العمل عليها.
هذا تحديدا ما حدث قبل أيام، إذ عقد الرئيس الأمريكي جو بايدن اجتماعا نادرا مع جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وجانيت يلين وزيرة الخزانة لمناقشة معدلات التضخم المتصاعد في الولايات المتحدة، ومحاولات البيت الأبيض السيطرة على الزيادة المتتالية في الأسعار قبل انتخابات منتصف المدة.
وقد صرح الرئيس الأمريكي قائلا "أعتقد أن الاجتماع يأتي لبحث أول أولوياتي ألا وهي التصدي للتضخم من أجل الانتقال من تعاف تاريخي إلى نمو ثابت".. مؤكدا أنه لا يعتزم انتهاك استقلالية المصرف المركزي الذي سيصب تركيزه على كيفية لجم التضخم.
التضخم إذا هو المشكلة أو المعضلة الكبرى، التي تواجه الولايات المتحدة، وفي الواقع الاقتصاد العالمي ككل، حيث ارتفاع الأسعار بات يؤرق الحكومات والمستهلكين في معظم إن لم يكن جميع اقتصادات الكرة الأرضية.
بالتأكيد هناك عديد من الوسائل للحد من ارتفاع الأسعار، لكن الواقع يشير إلى أن الأداة الأكثر استخداما ورواجا للتصدي لشبح التضخم تكمن في رفع أسعار الفائدة.
يحدث التضخم عندما يفوق الإنفاق على السلع والخدمات الإنتاج، فيمكن أن ترتفع الأسعار بسبب قيود العرض، التي تزيد من تكاليف إنتاج السلع وتقديم الخدمات. أو لأن المستهلكين الذين يتمتعون بوضع اقتصادي مزدهر، ينفقون فائض الأموال، التي لديهم بشكل أسرع من قدرة المنتجين على زيادة الإنتاج، وفي الواقع فإن التضخم غالبا ما يكون نتيجة لهذين العاملين.
ولـ"الاقتصادية" يعلق روبر بيت، الباحث في بنك إنجلترا، قائلا "الحكومات تعمل عموما على إبقاء التضخم ضمن النطاق الأمثل الذي يعزز النمو دون أن يحد بشكل كبير من القوة الشرائية للعملة، وفي الولايات المتحدة يقع جزء كبير من مسؤولية التحكم في التضخم على عاتق لجنة الاحتياطي الفيدرالي، التي تضع السياسة النقدية لتحقيق أهداف الاحتياطي الفيدرالي المتمثلة في استقرار الأسعار وزيادة فرص العمل".
في ضوء الزيادات، التي شهدتها أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وعدد من الاقتصادات الناشئة أخيرا لمكافحة معدلات التضخم الآخذة في الارتفاع، فإن السؤال المطروح هل تنجح تلك الزيادات المتتالية في أسعار الفائدة في دفع أسعار السلع والخدمات للانخفاض؟ وإلى أي مدى يمكن مواصلة رفع أسعار الفائدة؟ وإلى أي مدى يمكن أن ينخفض التضخم؟ وما الفترة الزمنية المتوقعة لذلك؟.
لا توجد إجابات قاطعة ومحددة بهذا الشأن، حتى إن رفع أسعار الفائدة لا يمثل من وجهة نظر بعض الاقتصاديين وصفة مضمونة بنسبة 100 في المائة للسيطرة على التضخم، بل إن الأمر ذاته قد يختلف من اقتصاد إلى آخر.
يقول لـ"الاقتصادية" إم . دي . جيرمي الخبير الاستثماري "لا بد أن تكون الحسابات دقيقة بشأن معدل الزيادة المقترحة في أسعار الفائدة والتوقيت والمدة الزمنية الفاصلة بين زيادة وأخرى، فالتحرك بسرعة كبيرة يزيد من خطر حدوث ركود اقتصادي، بينما التحرك البطيء قد يعمق التضخم".
ويضيف "لا يوجد دليل كاف على أن التضخم بلغ ذروته بعد، ومن ثم، فإن المؤكد أن هناك مزيدا من الزيادات المتوقعة في أسعار الفائدة عالميا، كما أن الفترة الزمنية بين تلك الزيادات ونسبتها ستتقلص فقط إذا تراجع حجم التضخم".
مع هذا يشكك الدكتور توم جيفري، أستاذ النقود والبنوك بأن تنجح سياسة رفع أسعار الفائدة بمفردها في خفض معدلات التضخم، ويطالب باتخاذ مجموعة من العوامل المشتركة للسيطرة على الوضع الآخذ في الخروج عن السيطرة على المستوى العالمي، وفقا لتقديراته.
ويقول لـ"الاقتصادية" إنه "من المستبعد أن تنجح سياسات ترفع أسعار الفائدة بمفردها في خفض معدلات التضخم إلى المستويات المستهدفة، فمثلا معدل التضخم في الولايات المتحدة بلغ في أبريل 8.3 في المائة والمستهدف من قبل الفيدرالي الأمريكي 2 في المائة، كما أن مواصلة رفع أسعار الفائدة وإن أدت إلى تراجع الأسعار فإنها ستؤدي حتما إلى زيادة معدلات البطالة، إذ ستؤدي لارتفاع تكلفة الاقتراض من أجل التوسع الرأسمالي من قبل المستثمرين. ومن ثم، فإن كبح جماح التضخم عبر زيادة أسعار الفائدة فقط قد يقود الاقتصاد الأمريكي وإلى حد كبير اقتصاد البلدان الرأسمالية المتقدمة إلى الركود".
هذا يعني أن التعويل على قدرة البنوك المركزية بـ"مفردها" في السيطرة على التضخم ربما يكون فيها بعض المبالغة، إذ إن رفع أسعار الفائدة لا يعني في الواقع العملي سوى التحكم في جانب الطلب، وخفض الاستهلاك.
لكن إذا ظل جانب العرض والإنتاج يعاني مشكلات في سلاسل الإمداد، أو عدم قدرة الموانئ على سرعة إفراغ حاويات السفن، أو أن الصين لن تعود إلى كامل طاقاتها الإنتاجية بسبب سياسات الإغلاق نتيجة وباء كورونا، أو أن الاقتصادات المتقدمة وصلت إلى نحو مرحلة التشغيل الكامل، ولا يوجد لديها قوة عاملة إضافية يمكن أن تلبي احتياجات سوق العمل، فإن جهود البنوك المركزية لخفض التضخم ربما لا تحقق المرجو منها.
لكن السؤال الذي لا يتطرق إليه قادة البنوك المركزية ربما خشية أن يكون بمنزلة التزام قد لا يكون في مقدورهم تطبيقه في القريب العاجل على الأقل، يرتبط بإمكانية أن تعود البنوك المركزية وخاصة الفيدرالي الأمريكي إلى خفض أسعار الفائدة إذا ما تراجعت معدلات التضخم بشكل كبير.
من جهته، يرى الدكتور جيف برنارد، الاستشاري السابق في اللجنة المالية لبنك إنجلترا، أنه نظريا يجب خفض أسعار الفائدة إذا تراجع التضخم إلى أقل من النسبة المطلوبة وهي 2 في المائة، لكنه يعتقد أن هذا مستبعد حدوثه في الأجل القصير أو المتوسط.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أن الهدف الرئيس من رفع أسعار الفائدة سحب السيولة من الأسواق، فالسيولة المالية حدثت منذ أن خفضت أسعار الفائدة إلى الصفر تقريبا منذ 2008، ما أسهم بضخ تريليونات الدولارات في الاقتصاد العالمي، وتلك التريليونات تتحمل مسؤولية الارتفاع الراهن في الأسعار، وقد زاد التدفق النقدي العالمي بين 12و15 تريليون دولار خلال فترة جائحة كورونا، هذا يعني أن عملية سحب تلك الأموال من الأسواق سيتطلب أعواما، ويجب أن يتم بشكل تدريجي.
وتتفق وجهة النظر تلك مع إعلان الفيدرالي الأمريكي عن خفض تحفيز الأسواق المالية عن طريق التخلي عن حيازته من السندات لتتراجع مع مرور الوقت، إذ سيعمل على السماح لنحو 95 مليار دولار من السندات بالخروج من ميزانيته العمومية شهريا، ما يقلل السيولة بنحو تريليون دولار سنويا، كما سيعمل على رفع أسعار الفائدة المعيارية قصيرة الأجل مع خفض أكثر من ثمانية تريليونات دولار من السندات التي تراكمت على مر الأعوام للمساعدة في الحفاظ على تدفق الأموال عبر الاقتصاد.
وإذا كان الخبراء يؤكدون أن الاقتصاد العالمي قد دخل الآن في واحدة من أطول فترات الرفع المتواصل لأسعار الفائدة الدولية، وأن الحديث عن خفض أسعار الفائدة لا يمكن أن يتم قبل خمسة أعوام من الآن، فإن السؤال الذي سيطرح نفسه تلقائيا من هم الفائزون والخاسرون من ملامح الاقتصاد العالمي الجديدة وارتفاع أسعار الفائدة البنكية.
يتخوف بعض الخبراء من أن يكون القطاع العقاري أبرز الخاسرين من ارتفاع أسعار الفائدة عالميا، فقد ارتفعت أسعار المساكن على مدى العامين الماضيين، وارتفاع أسعار الفائدة يضع الراغبين في الشراء في وضع صعب نتيجة ارتفاع قيمة القسط الشهري للمستحقات المالية واجبة السداد للبنك في حالة الحصول على قرض لشراء وحدة عقارية.
باختصار ستكون أسعار المساكن أكثر تكلفة والتمويل أغلى في المرحلة المقبلة، ما قد يؤدي إلى تباطؤ في سوق الإسكان، كما يتوقع أن يقل اندفاع شركات العقار في التوسع نتيجة ارتفاع تكلفة الإقراض.
وبينما ينصح عدد من المصرفيين بسداد ديون بطاقات الائتمان بأسرع ما يمكن لأنها ستصبح أكثر تكلفة، فإن المحللين الماليين في بورصة لندن يشيرون إلى أن الأوقات السعيدة لسوق الأسهم ستتراجع.
ولـ"الاقتصادية" يعلق جون ريان، الخبير المالي في بورصة لندن قائلا "كانت أعوام الفائدة البنكية الصفرية نعمة كبيرة لأسواق الأسهم، إذ كان كثير من العملاء يقترضون بفائدة تقارب الصفر من البنوك، ويستثمرون في سوق الأسهم، ومن خلال الأرباح المحققة يسددون قروضهم البنكية، وإلى حد ما كان هذا يحدث في سوق العملات المشفرة".
ويضيف "مع كل زيادة في أسعار الفائدة على المستوى العالمي ستفقد السوقان زهو الأعوام الماضية".
مع هذا يعد كثير من الخبراء أن الخاسر الأكبر من الاتجاه العالمي لزيادة أسعار الفائدة ستكون الحكومات، حيث ستزيد المديونية المرتفعة، ففي الولايات المتحدة ومع تجاوز الدين الوطني 30 تريليون دولار، فإن ارتفاع أسعار الفائدة سيرفع تكاليف تسديد الديون الحكومية.
لكن للصورة جوانبها الإيجابية أيضا خاصة بالنسبة للمودعين والمدخرين، الذين ستزداد قواتهم المالية نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة على مدخراتهم البنكية، كما أن أسهم شركات التأمين يمكن أن تزدهر مع ارتفاع الفائدة.
على أي حال، فإن الاقتصاد العالمي لا يزال يعمل في بيئة ذات أسعار فائدة منخفضة إلى حد ما حتى الآن على الأقل، ومع إدراك الجميع أن ذلك لن يستمر طويلا، فإن البنوك المركزية سيكون لها القول الفصل في الفترة المقبلة.