Author

هل أسعار النفط الحالية مرتفعة حقا؟

|

تتأرجح أسعار النفط بين الصعود والهبوط منذ زمن بعيد شأنها شأن باقي السلع. وكلما ارتفعت أسعار النفط بدأ السياسيون والإعلاميون الغربيون يدندون على أسطوانة وقوف "أوبك" وراء زيادة الأسعار والإضرار بالمستهلكين وارتفاع تكاليف المعيشة. وكأن النفط ومنتجاته السبب الوحيد وراء ارتفاع معدلات التضخم وتكاليف المعيشة، ويتناسون وقوف ودور السياسات النقدية والمالية في رفع تكاليف المعيشة. وتمثل منتجات النفط والطاقة جزءا من حزمة السلع والمنتجات والخدمات التي تدخل في سلة الاستهلاك. صحيح أن ارتفاعها يسهم في رفع معدلات التضخم وتكاليف المعيشة، لكن بجزء يقل كثيرا عما يتصوره معظم الناس. كما ينبغي ألا ننسى أن أسعار الطاقة، وخصوصا المنتجات النفطية، تتأثر بالعوامل والسياسات المحلية في معظم دول العالم أكثر من تأثرها بأسعار النفط الخام.
وتشكل الضرائب جزءا كبيرا من أسعار المنتجات النفطية بل إنها تفوق في كثير من الدول - والمتقدمة بالذات - مساهمة النفط الخام. فأسعار النفط الخام عند المستويات الحالية البالغة 110 دولارات للبرميل تقريبا تسهم بنحو 69 سنتا أمريكيا للتر أو 2.62 دولار للجالون. أما أسعار البيع الفعلية في معظم دول العالم فتفوق هذا المستوى بعدة مرات، فهذه هونج كونج - الأعلى على مستوى العالم - تسجل هذه الأيام نحو 11 دولارا لجالون البنزين، أما الدول المتقدمة، فيسجل عديد منها أسعارا تفوق ثمانية دولارات للجالون، ولا تقل عن سبعة أو ستة دولارات للجالون في معظم الدول. وتسجل الولايات المتحدة التي تعد أسعارها منخفضة مقارنة بباقي الدول نحو 4.6 دولار للجالون.
وتسهم الاحتكارات، والمنتجون المحليون للنفط ومنتجاته، وكذلك المضاربون في رفع أسعار المنتجات النفطية، خصوصا عند شح الإمدادات. وترتفع في الوقت الحالي وبقوة هوامش التكرير عبر العالم ما يضيف مزيدا من الزيت إلى لهيب الأسعار. ويفيد أحدث التقارير بوصول هوامش المصافي إلى 60 دولارا للبرميل، أي أنها تضيف ما بين دولار، ودولار ونصف الدولار لسعر جالون المنتجات النفطية. وهذا ناتج عن عوامل السوقين المحلية والعالمية، التي تركز فيها الشركات على مبدأ تعظيم الأرباح واستغلال أحوال الأسواق لجني الحد الأقصى منها ورفع الأسعار. وتساعد عدة عوامل حاليا على تضخيم هوامش المصافي، من بينها تراجع طاقات التكرير في بعض مناطق العالم، كالصين والشرق الأوسط، وارتفاع معدلات استغلال المصافي عبر العالم بوجه عام.
وترتفع نبرة التشكي من "أوبك" عند ارتفاع أسعار النفط ومدى مساهمتها في رفع معدلات التضخم، لكن لا تنبس الأغلبية ببنت شفة عندما تتراجع الأسعار وتسهم بدورها في خفض تكاليف المعيشة ومعدلات التضخم. ويتم عادة إرجاع انخفاض الأسعار إلى عوامل السوق، كما يتم التغاضي عن دور "أوبك" في خفض معدلات زيادة الأسعار عند حدوث نقص الإمدادات من خارجها. عموما، إن إجمالي تأثير أسعار النفط الخام في التضخم منذ 2008 حتى الآن شبه معدوم.
وعلى الرغم من التشكي من ارتفاع الأسعار، فهناك تساؤل مهم عن حقيقة ارتفاع مستويات أسعار النفط، وهل هي مرتفعة مقارنة بمستوياتها التاريخية أم لا؟ ويمكن القول إجمالا إن مستويات الأسعار الحالية الحقيقية ليست مرتفعة. فقد سجلت أسعار النفط أعلى مستوياتها التاريخية في 2008، ولم يتم كسر هذه الأسعار الاسمية حتى في الآونة الأخيرة. من جهة أخرى، ينبغي التركيز عند المقارنة التاريخية بين الأسعار على الأخذ بالأسعار الحقيقية وليس الاسمية أو الجارية. فالأسعار الجارية مضللة حيث يعبر السعر الجاري عن قيمة معينة في وقت معين وعندما يتغير التوقيت تتغير القيمة، لكن الأسعار الحقيقية تعبر عن قيمة محددة خلال مدة المقارنة. وعند النظر إلى الأسعار الحقيقية للنفط في الوقت الحالي نجد أنها تقل بنسبة لا يستهان بها عن مستوياتها في 2008. وارتفعت أسعار معظم السلع والخدمات بنسب تفوق كثيرا ارتفاع أسعار النفط خلال الفترة 2008 إلى 2021. وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن إجمالي التضخم العالمي خلال الفترة 2008 إلى 2021 لا يقل عن 50 في المائة. ولو تم تعديل أسعار النفط الحالية إلى مستوياتها الحقيقية في 2008، فإنها ستكون في حدود 70 دولارا للبرميل، أي أن أسعار النفط الحقيقية الحالية تقل كثيرا عن مستوياتها في 2008، لهذا فإن مستوياتها الحالية متزنة مقارنة بالأسعار الحقيقية التاريخية للنفط. من جهة أخرى، فإن مقارنة تغير أسعار النفط الحالية بأسعار المنتجات الصناعية، كالسيارات والمعدات والأجهزة، تشير إلى أن أسعاره الحقيقية الحالية منخفضة مقارنة بأسعار تلك المنتجات.
لو كانت الدول المتذمرة من ارتفاع الأسعار جادة في الحد من ارتفاع تكاليف المنتجات النفطية أو خفض أعبائها على المستهلكين لخفضت كثيرا الضرائب المفروضة عليها وعلى منتجيها أو حتى ألغتها. كما أن بإمكان الدول التي تحرص على عدم ارتفاع تكاليف المعيشة، تبني سياسات الحد من جشع المصافي وتجار الطاقة في دولهم، أو حتى وضع قيود على أسعار الخامات المحلية. ويعمد السياسيون إلى لوم الجهات الخارجية لصرف الأنظار عن العوامل المحلية التي تقف وراء التغيرات الاقتصادية، وتحميل الآخرين مسؤولية الوقوف خلف المعضلات الاقتصادية، وتجنب تبني السياسات التي قد تضر بمصالح جماعات الضغط داخل الدول أو خارجها.

إنشرها