Author

تراجع آفاق النمو العالمي

|

ساد التفاؤل التطلعات الاقتصادية في النصف الثاني من العام الماضي، بعد انتشار حملات التطعيم ضد وباء كورونا لدى دول العالم الكبرى. وتراجعت توقعات النمو الاقتصادي بعض الشيء مع ظهور متحور أوميكرون بداية العام الحالي، الذي أعاد بعض مظاهر الإغلاق في عدد من الدول، لكن ولحسن الحظ بشكل محدود. وقد خلفت الجائحة وسياسات التعامل معها آثارا واضحة على مسيرة الاقتصاد العالمي، من أبرزها زيادة مخاطر التضخم وارتفاع تكاليف الطاقة والمعادن والغذاء وانقطاعات سلاسل الإمداد. وأضافت الحرب الأوكرانية - الروسية أخيرا هزة إضافية سلبية للاقتصاد العالمي، حيث أصابت العلاقات الدولية بالتوتر، ورفعت مستويات عدم اليقين، وعمقت أزمة أسعار الطاقة والأغذية والمعادن والأسمدة ورفعت المخاوف حول إمداداتها.
توقعت تطلعات صندوق النقد الدولي في كانون الثاني (يناير) الماضي تحسن أداء الاقتصاد العالمي في الربع الثاني من العام الحالي بعد حالة التراجع الناتجة عن متحور أوميكرون في الربع الأول 2022، ولم يكن في حسبان صندوق النقد أو المؤسسات الدولية ومراكز الأبحاث نشوب الحرب في أوكرانيا. أما بعد الحرب فقد عدل الصندوق توقعاته لمعدلات النمو الاقتصادي العالمي لـ2022 - 2023 في أحدث تطلعاته الصادرة في 19 نيسان (أبريل) 2022. وتتضمن التعديلات خفضا لمعدلات النمو الاقتصادي العالمي هذا العام والعام المقبل. ولم تكن الحرب هي السبب الوحيد لخفض التطلعات حيث ستقود جهود السيطرة على التضخم إلى تشديد السياسات النقدية في عدد من الدول ما سيضغط على أنشطتها الاقتصادية. إضافة إلى ذلك فإن سياسات الصين المتشددة في السيطرة على الوباء التي تضمنت إغلاقات في بعض مناطقها ومدنها المهمة ستعيق تعافي سلاسل الإمداد.
خفضت أحدث تطلعات صندوق النقد الدولي آفاق نمو الاقتصاد العالمي إلى 3.6 في المائة في 2022 - 2023. ويمثل هذا تراجعا بثمان أعشار النقطة المئوية هذا العام، وعشري نقطة العام المقبل من التطلعات التي صدرت قبل ثلاثة أشهر فقط. وتعكس هذه التطلعات آثار الحرب الأوكرانية - الروسية والعقوبات الاقتصادية الناتجة عنها. طبعا ستكون أوكرانيا وروسيا أكبر المتأثرين بهذه الحرب. وسينكمش الاقتصاد الأوكراني بما لا يقل عن 35 في المائة حتى لو توقفت الحرب في الأمد القريب، وذلك نتيجة لكونها ميدان الحرب، وخسارتها لبنيتها التحتية وجزء من سكانها، وتوقف الأنشطة الاقتصادية فيها. أما الاقتصاد الروسي فسينكمش نتيجة للعقوبات بما لا يقل عن 8.5 في المائة، وقد يتراجع أكبر كما تشير إليه مصادر أخرى.
ستتأثر الدول الأوروبية كمنطقة بالحرب أكثر من غيرها، وتستورد أوروبا من روسيا نسبة كبيرة من احتياجات طاقتها. ويستشرف تراجع معدل نمو اقتصاد أوروبا الغربية 1.1 في المائة عن التوقعات السابقة، حيث سينخفض معدل النمو الأوروبي هذا العام إلى 2.8 في المائة فقط، وذلك على فرضية عدم قطع إمدادات الطاقة الروسية، أما في حالة قطعها فتسجل بعض الدول الأوروبية وأبرزها ألمانيا انكماشا في اقتصاداتها. في الجانب الآخر من الأطلنطي تراجعت توقعات نمو الاقتصاد الأمريكي بثلاثة أعشار نقطة مئوية إلى 3.7 في المائة، لكن ليس نتيجة للحرب بل للانسحاب المبكر من التحفيز النقدي. كما شملت تراجعات تطلعات النمو الدول والمناطق الاقتصادية الأخرى حول العالم التي من أبرزها تراجع معدلات نمو الاقتصادات الصينية والهندية واليابانية 0.4 في المائة، 0.8 في المائة، 0.9 في المائة على التوالي من تطلعات النمو السابقة. ومن المتوقع أن تصل معدلات النمو في هذه الدول في 2022 إلى 4.4 في المائة، 8.2 في المائة، 2.4 في المائة على التوالي.
ستستفيد المملكة - مثلها مثل باقي مصدري النفط - من التحسن القوي في أسعار النفط هذا العام والعام المقبل ما سيحفز معدل نموها الاقتصادي المتوقع خلال 2022 - 2023، حيث سيرتفع عن توقعات الصندوق قبل ثلاثة أشهر بـ2.8 في المائة، 0.8 في المائة على التوالي. وسيصل معدل النمو الاقتصادي للمملكة إلى 7.6 في المائة في 2022، 3.6 في المائة خلال 2023 حسب تطلعات الصندوق الأخيرة. ومن المتوقع أيضا أن تسجل دول الخليج الأخرى تحسنا في تطلعاتها الاقتصادية العامين الحالي والمقبل. وستوفر زيادة إيرادات النفط غطاء كافيا لمواجهة ارتفاع تكاليف الأغذية وتسريع الاستثمارات المحلية. من جهة أخرى ستواجه الدول الأقل دخلا صعوبات في تأمين إمدادات غذائية كافية ما يهدد بتزايد المجاعة ونقص التغذية وتراجع معدلات نموها.
واجه العالم خلال الأعوام الثلاثة الماضية هزات سلبية تمثلت بالدرجة الأولى في انتشار جائحة كورونا. وقد بذل العالم جهودا مضنية لتخطي الصعوبات الاقتصادية الناجمة عنها، وتحمل تكاليف باهظة من أبرزها الارتفاع الهائل في الديون العامة والخاصة، وزيادة معدلات التضخم، وانقطاعات سلاسل التوريد. وما كاد العالم يخرج من نفق الأزمة حتى بدأت الحرب الأوكرانية التي أعادت خلط الأوضاع الاقتصادية العالمية، وأضافت مخاطر إضافية لمسيرة الاقتصاد العالمي، وحفزت بعض المعضلات التي تعانيها عديد من الاقتصادات العالمية. وقد خفض صندوق النقد الدولي آفاق النمو الاقتصادي العالمي في توقعاته السابقة الصادرة خلال كانون الثاني (يناير) الماضي عن نظيرتها في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، كما خفضها مرة أخرى في تطلعات الشهر الحالي. وهذا قد يخفض الثقة بالتطلعات الاقتصادية التي تصدرها المؤسسات الدولية والمتخصصة، لكن مراجعة التوقعات ضروري وناتج بالطبع عن صعوبة التنبؤ بالأحداث والصدمات المستقبلية التي تغير مسارات التفاعلات الاقتصادية.

إنشرها