Author

تحديات تواجه الدولار

|
تطرقت مقالة الأسبوع الماضي إلى هيمنة الدولار على فوترة التجارة العالمية. وتمتد هيمنة الدولار أيضا إلى الاحتياطيات الرسمية للبنوك المركزية العالمية، وكذلك موجودات المصارف التجارية الأجنبية. ويمثل الدولار ما لا يقل عن 60 في المائة من إجمالي الموجودات الأجنبية للبنوك المركزية حول العالم، حسب أحدث الإحصاءات. وتراجعت حصة الدولار في الاحتياطيات الرسمية العالمية بنحو 10 في المائة خلال العقدين الماضيين، لكنه ما زال يتمتع بثقة واسعة من قبل الجهات الرسمية. تأتي هذه الثقة بصفة رئيسة نتيجة لمسيرة الدولار التاريخية وقدرته على الاحتفاظ بقيمته مقارنة بالعملات الأخرى، وكذلك لتوافر منتجات هائلة في الأصول الدولارية، وحرية حركة رؤوس الأموال، وضخامة الأسواق المالية الأمريكية والعالمية المقيمة بالدولار. يأتي بعد الدولار في موجودات البنوك المركزية العالمية اليورو بنحو 21 في المائة، ثم الين الياباني بنحو 6 في المائة، والجنيه الاسترليني بنحو 5 في المائة، ثم الرنمينبي "اليوان" الصيني بنحو 2 في المائة. وهناك عوامل أخرى مساندة لهيمنة الدولار العالمية، من أبرزها ربط كثير من الدول عملاتها مع الدولار بصورة كلية أو جزئية. ويقدر بأن ما لا يقل عن نصف الناتج العالمي يأتي من دول تربط عملاتها بالدولار. كما يلاحظ أن الطلب على الدولار يرتفع وقت الأزمات، ويستخدم كملاذ آمن في الأوقات والأماكن التي تعاني اضطرابات مالية أو اقتصادية أو أمنية.
تشكل السندات وأذونات الحكومة الأمريكية معظم احتياطيات البنوك المركزية من العملة الأمريكية. وتزيد حصة الجهات الأجنبية من السندات الحكومية الأمريكية على سبعة تريليونات دولار، كما يحتفظ الأجانب بما قد يزيد قليلا على نصف الأوراق النقدية الدولارية أو نحو تريليون دولار. وترتفع مساهمة الجهات الأجنبية أيضا في ملكية أسهم الشركات الأمريكية وسنداتها، ويقدر بعض المصادر أن الجهات غير الأمريكية تملك ما يقارب 40 في المائة من رؤوس أموال الشركات المساهمة في الولايات المتحدة، الذي يفوق عدة تريليونات دولار. وإضافة إلى ذلك، يملك المستثمرون الأجانب أصولا متنوعة أخرى في قطاعات مختلفة كقطاعات العقارات. وقدرت إحدى الدراسات وصول حجم الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة في 2017 بنحو 22.6 تريليون دولار أو أكبر من الناتج المحلي الأمريكي. ويتركز معظم الاستثمارات الأجنبية في السندات ومنتجاتها. لهذا يمكن القول إن الدولار مهم للعالم، كما هو مهم للولايات المتحدة، ومن مصلحة دول وكيانات كثيرة المحافظة على مكانة الدولار لتنمية ثرواتها.
لا يبدو حاليا أن هناك تهديدا فعليا لهيمنة الدولار الممتدة منذ نحو 100 عام، لكن ينبغي التأكيد أنها ليست مضمونة على الدوام. وترتفع أمام هيمنة الدولار مخاطر وتحديات جدية، وإن كانت لا تبدو في الوقت الحالي خطيرة. وبرز اليورو خلال العقدين الماضيين كمتحد جدي لهيمنة الدولار بسبب ضخامة الاقتصاد الأوروبي وانفتاحه وقوة مؤسساته. وحقق اليورو بعض المكاسب كعملة عالمية، لكن ما زال في موقع متأخر مقارنة بالدولار. وترتفع المخاطر بعض الشيء بالنسبة إلى اليورو بسبب التقلبات السياسية المحتملة التي قد تؤثر في الوحدة الأوروبية الاقتصادية واليورو.
يمثل تعاظم القوة الاقتصادية للصين تهديدا متصاعدا لهيمنة الدولار، حيث تحتل الصين المركز الثاني عالميا في حجم اقتصادها، كما تعد أكبر مصدر للسلع في العالم. ومن المتوقع أن يتجاوز الناتج المحلي الصيني نظيره الأمريكي خلال عقد من الزمن، ومع هذا تحتفظ الصين بموجودات دولارية ضخمة وتربط عملتها عمليا بالدولار الأمريكي. ويحد من قدرات وجاذبية الرنمينبي الصيني على احتلال الهيمنة العالمية عدم تمتعه بحرية التعامل، والقيود المفروضة على حركة رؤوس الأموال، والسيطرة الحكومية على الاقتصاد الصيني، وانخفاض ثقة المستثمرين نسبيا بالمؤسسات الصينية.
تأتي التغيرات التقنية التي قد تشهدها أنظمة التبادل المالي العالمية، وبروز العملات الرقمية كوسيط للتبادل كواحدة من أبرز المخاطر المستقبلية التي تواجه هيمنة الدولار. وسترتفع استخدامات العملات الرقمية الرسمية والخاصة مع خفض مخاطر استخداماتها مما سيؤثر سلبا في جاذبية الدولار كوسيط آمن للتبادل. وما زالت العملات الرقمية وبالذات الخاصة تتصف بدرجة كبيرة من عدم الاستقرار وتستخدم بشكل أساس كقنوات استثمار ومضاربات مالية وبشكل محدود كوسائل للدفع، كما ترتفع المخاطر الأمنية لاستخدام العملات الرقمية الخاصة، ما يهدد بفرض قيود حكومية متزايدة عليها. وتدرس البنوك المركزية العالمية خيارات إصدار عملات رقمية، وفي حالة تزايد استخدامها فمن المرجح أن تصدر الولايات المتحدة دولارا رقميا يساعد على استمرار هيمنة الدولار. ولا يبدو حاليا أن هناك تهديدا في المستقبل المنظور لهيمنة الدولار من العملات الرقمية.
تمثل التغيرات والهزات الاقتصادية والسياسية العالمية والداخلية السلبية أكبر التهديدات على مكانة الولايات المتحدة الاقتصادية والتجارية والاستراتيجية، وبالتالي هيمنة الدولار العالمية. وتراجعت هيمنة الجنيه الاسترليني مع تراجع نفوذ المملكة المتحدة وأهميتها الاقتصادية والاستراتيجية وأفول إمبراطوريتها التي لم تكن تغيب عنها الشمس. من جهة أخرى، تستغل الولايات المتحدة هيمنة الدولار لفرض وتعميق العقوبات على دول وكيانات متعددة. وقد يقود الاستخدام المفرط للعقوبات من جانب الولايات المتحدة مع مرور الوقت إلى إجبار كثير من الدول على خفض اعتمادها على الدولار، ما سيضر بهيمنته على المستوى العالمي.
إنشرها