المفارقة الجميلة
من الأشياء التي كان الوالدان يحرصان عليها تعليم أبنائهما كيفية مواجهة الحياة، وغالبا يتم ذلك عبر نقل خبراتهما التي تراكمت من خلال التجربة والمواقف، إضافة إلى التعليم الذي تحصلا عليه. في شؤون المعيشة كان الأب يحاول أن يعلم الفتى الذكر تحديدا كيف يتدبر أمور العائلة مع الجهات الحكومية، يريده أن يعرف كيف يتقدم على طلب منحة أرض من الأمانة أو البلدية، وكيف يراجع الأحوال المدنية، والجوازات، وقبل ذلك أن يعرف موقعهما وكيفية التصرف اللبق أو الحاذق من الموظفين المدنيين والعسكريين لتتحقق حاجته، إضافة إلى طرق البحث عن الواسطة لتسريع أموره.
كان يريده أن يعرف كيف يستخرج التراخيص البلدية، وكيف يحاجج في المخالفات أيا كان نوعها، وماذا يقول ليقنع المسؤول في شركة المياه أو الكهرباء بشيء أو بطلب خدمة.
يضاف إلى هذه القوائم أشياء كثيرة تخرج من الدائرة الحكومية إلى دوائر البيع والشراء والتعامل مع المحال أو الشركات وربما العمالة، وقائمة طويلة تعرفونها، وهو يفعل كل ذلك انطلاقا من رغبته في توفير الأمان لهذا الشاب حتى يستطيع مجابهة الدنيا و"تسليك" أموره فيها، والاطمئنان عليه بأنه لا يعتمد كليا على أبيه، وباختصار هي جزء من إعداد هذا اليافع ليصبح رجلا يستطيع تحمل المسؤولية.
اليوم يجد الآباء أنفسهم ليسوا بحاجة إلى معظم ما تقدم، فليس عليه أن يعرف كيف يعد ملفا "علاقيا" لتقديمه، وفي كثير من الحالات ليس عليه أن "يراجع" معظم الجهات، فكل شيء أصبح في متناول أي جهاز ذكي بفضل الجهود والإنجازات الجبارة للحكومة الإلكترونية والتقدم التقني الذي تضاهي به المملكة كثيرا من دول العالم المتقدم.
المفارقة، وهي مفارقة جميلة، أن الآية انعكست، فبعض الآباء اليوم في أعمار معينة باتوا في حاجة أبنائهم وبناتهم ليقوموا بتعليمهم ومساعدتهم على معرفة تفاصيل ودهاليز الخدمات الإلكترونية والتطبيقات التي سهلت حياة الناس، فهم حتى إن كان لديهم معرفة بهذه الأشياء، يظل الأبناء والبنات بحكم التماهي أكثر مع التقنية أسرع وأكثر دقة وملاحظة.
أيضا لم تعد المسألة تأهيل الفتى ليمثل الأسرة في شؤونها العامة أو التجارية، فالتقنيات، وقبل ذلك وأهم منه التحولات المجتمعية الإيجابية، لم تعد تفرق بين الفتى والفتاة أو الرجل والمرأة في هذا الشأن.
أناقش مع أقران من عمري كيف أصبحت معاملة كانت تأخذ منك أياما وشفاعات وعقبات تستغرق اليوم بضع دقائق إذا أنجزتها بنفسك، وربما دقيقة أو اثنتين إذا استعنت بالأصدقاء اليافعين في منزلك.
إنها بالفعل مفارقات جميلة.