بناء دولة والتأثير السياسي والاقتصادي

إن الحديث عن أهم الوقفات التاريخية التي أسهمت في نشأة الدولة السعودية الأولى، يقتضي بنا العودة إلى عهود مبكرة من التاريخين العربي والإسلامي لنتعرف على مسيرة أبطال هذه الدولة والتضحيات الجسيمة التي قدموها عبر التاريخ.
- ففي مطلع القرن الخامس الميلادي انتقلت قبيلة بني حنيفة إلى اليمامة حينما سار عبيد بن ثعلبة قاصدا اليمامة حتى وصل إلى موقع حجر، وهي الرياض اليوم، فاتخذها سكنا له، وكانت حجر مدينة أشبه بالمهجورة حيث وجد عبيد بيوتا قائمة لكنها غير مأهولة فاتخذها سكنا له ولعشيرته واحتجرها ومن هنا أتت التسمية، بعد ذلك، قام أفراد القبيلة بتأسيس عدد من مراكز الاستقرار التي امتدت على ضفاف وادي حنيفة حيث أصبحت اليمامة إقليما يحكمه أفراد هذه القبيلة بكامله، وعندما ظهر الإسلام كان ملك اليمامة هو ثمامة بن أثال الحنفي صاحب القصة الشهيرة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا يبين مدى الاستقرار والقوة التي شكلتها هذه القبيلة في هذا الإقليم.
- خلال العصر الإسلامي وبعد انتقال العاصمة من المدينة المنورة إلى خارج الجزيرة العربية تعرض إقليم اليمامة للإهمال وأصبح في طي النسيان لمدة تزيد على ألف عام . وأسست الدولة الأخيضيرية في منتصف القرن الثالث الهجري واتخذت من الخضرمة في الخرج عاصمة لها وهذا أثر في مدينة حجر التي كانت مدينة كبيرة شبيهة بالكوفة والبصرة من حيث الحجم والتخطيط، وسيطر الأخيضريون على المنطقة واتبعوا سياسة قاسية أدت إلى هجرة بعض السكان، إضافة إلى القحط الذي أصاب المنطقة.وبعد سقوط الدولة الأخيضرية عاد بعض بني حنيفة إلى وسط الجزيرة العربية ليعيدوا تأسيس دولتهم من جديد.
- كان الوضع السياسي في منطقة نجد في تلك الفترة أشبه ما يكون بمفهوم دولة المدينة، فقد تشكلت مدن لها كيانها السياسي المستقل، وكانت المدينة أشبه ما تكون بدويلة صغيرة مستقلة تمارس قيادتها السيادة الكاملة على أراضيها.
- في عام ٨٥٠هـ/ ١٤٤٦م، أسس مانع المريدي -الجد الـ 12 للملك عبدالعزيز- مدينة الدرعية، وقد امتلكت تلك المدينة الواقعة على وادي حنيفة مقومات اقتصادية أسهمت في تحقيقها للاكتفاء الذاتي، وذلك لوقوعها على مفترق طرق تجارية ولكونها منطقة زراعية تكثر فيها المزارع التي يزيد إنتاجها على حاجة سكانها فيقومون بتصديرها للمدن الأخرى في منطقة نجد. وقد تولى مانع المريدي وأبناؤه وأحفاده من بعده حكم الدرعية، وتوفير أسباب الحماية وممارسة التجارة والسيطرة على الطرق التجارية لتأمين أسباب العيش لسكانها.
- كان حلم بناء دولة عربية في جزيرة العرب يراود بعض العقلاء، وذلك لما اعترى هذه المنطقة الجغرافية من الإهمال خلال قرون عديدة، ولسيطرة أعراق أخرى، أبرزها الفارسي والتركي على مقدرات وخيرات الأرض العربية والشعوب العربية.
- عند دراسة ظاهرة مدينة الدرعية التي أسسها مانع المريدي منتصف القرن التاسع الهجري - الـ 15 الميلادي، وما نتج بعد ذلك يتبين لنا من عدة معطيات أنه أسس الدرعية لتكون المدينة الدولة، القابلة للتوسع مع الأيام. ونستشف من مواقف أمراء الدرعية منذ الأمير مانع المريدي أن هناك دستورا عائليا للحكم ركز على فكرة الدولة، والعنصر العربي، وهذا ما جعل هذه المدينة لا تقوم على عصبية قبلية، وإنما على أساس دولة عربية. ورغم قلة المؤرخين في منطقة نجد إلا أن أحدهم وهو المؤرخ راشد بن علي بن جريس الذي عاش في القرن الـ 13 الهجري/ الـ 19 الميلادي (ت ١٢٩٨هـ/ ١٨٨٠م تقريبا)، قال كلاما مؤداه: إن فكرة إنشاء دولة عربية في جزيرة العرب واضحة للأمير مانع المريدي، ولابنه ربيعة، وحفيده موسى بن ربيعة، وابن الحفيد إبراهيم بن موسى بن ربيعة الذي كان يسمى بأمير نجد، وغيرهم. ويذكر أنهم أمراء مستقلون، أي: لا يتبعون لأحد، وأن في تفكير الأمير موسى بن ربيعة الاستقلال بجزيرة العرب، وفي تفكير والده وجده ووالد جده مانع الاستقلال بمنطقة نجد، وشرق الجزيرة العربية التي جاء منها الأمير مانع لتأسيس دولته في نجد بالمنطقة التي كان يسكنها أجداده من قبيلة بني حنيفة.
- مما يشير أيضا إلى أن الدرعية أسست لتكون المدينة الدولة أنه حين نتأمل في الموقع الجغرافي لمدينة الدرعية يتضح لنا أنه موقع استراتيجي لعاصمة دولة كبرى، فمن أبرز المقومات لذلك وقوعها على واحد من أهم الأودية في نجد وهو وادي حنيفة، عدا أنها تقع على أحد أهم الطرق التجارية القديمة، ذلك الطريق الذي تعد الدرعية في قلبه، ويأتي من جنوب شبه الجزيرة العربية مرورا بنجران ثم يتجه شمالا إلى اليمامة ثم الدرعية حيث يتجه إلى الشمال نحو دومة الجندل وإلى الشرق نحو العراق وإلى الغرب نحو الحجاز وازدادت أهمية هذا الطريق بعد قيام إمارة الدرعية على يد مانع المريدي الذي سعى وأبناؤه وأحفاده إلى تأمينه وخدمته. وبتأسيس الإمام محمد بن سعود الدولة السعودية الأولى أصبح هذا الطريق من أبرز الطرق التي تمر بها قوافل التجارة والحج نتيجة لسياسة الإمام محمد بن سعود في تأمين هذا الطريق والارتباط بعلاقات مع القبائل التي يمر من خلال مناطقها، والاتفاق معها على ضبط الأمن وتقديم الخدمة اللازمة للمستفيدين منه.
- كان السائد في بلدات المنطقة أن تكون البلدة في بداية التأسيس خاصة بأسرة واحدة، وبعد مرور عقود من الأعوام تسمح هذه الأسرة لأفراد أو عائلات محددة، وبناء على اتفاق بينهم، بالانتقال إلى بلدتهم، وهذا ما نلاحظه في الدرعية. فمنذ نشأتها وهي موئل للعرب الآخرين، ولذلك هاجر إليها كثيرون وأقام فيها أو زارها عدد كبير من مناطق مختلفة من جزيرة العرب.
- كان مانع وأولاده الأمراء من بعده حريصين على حماية القوافل عامة وقوافل الحج خاصة، وعقدوا المعاهدات مع القبائل وأمراء المدن الآخرين في منطقة نجد وصارت لهم شهرة كبيرة في ذلك، كما كان نظام التجارة في الدرعية أكثر انفتاحا على الآخرين وأكثر منافسة.
- المتابع لدولة المدينة الدرعية يلاحظ أنها تتوسع وتضيق بحسب الاستقرار السياسي فيها، وهذه الأمور والدروس والتجارب المتراكمة الطويلة فهمها الأمير الإمام محمد بن سعود الذي بفضل الله ثم بفضل عبقريته انتقلت دولة المدينة في الدرعية إلى مرحلة دولة، تعارف المؤرخون على تسميتها بالدولة السعودية الأولى، وكانت الدولة السعودية منذ تأسيسها حتى يومنا هذا دولة عربية صافية بحكامها وشعبها، إذ لم تطأها يد أجنبية معتدية إلا ودحرتها.
- ولد الإمام محمد بن سعود عام ١٠٩٠ هـ / ١٦٧٩م، ونشأ وترعرع في الدرعية واستفاد من التجربة التي خاضها في شبابه حيث كان مراقبا جيدا لأوضاع الإمارة وعمل إلى جانب والده في ترتيب أوضاع الإمارة، ما أعطاه معرفة تامة بكل أوضاعها. شارك الإمام محمد بن سعود في الدفاع عن الدرعية عندما غزاها سعدون بن محمد زعيم بني خالد واستطاعت الصمود ودحر الجيش المعتدي. عرف عنه صفات متعددة كالتدين وحب الخير والشجاعة والقدرة على التأثير. كان محمد بن سعود امتدادا لتاريخ أسلافه الذين بنوا المدينة - الدولة وأراد أن ينتقل بها إلى دولة واسعة تتجاوز المدينة.
- تولى الإمام محمد بن سعود الحكم في ظروف استثنائية فقد عانت الدرعية قبل توليه الحكم ضعفا وانقساما لأسباب متعددة منها النزاع الداخلي و انتشار مرض الطاعون في جزيرة العرب خلال تلك الفترة الذي تسبب في وفاة أعداد كبيرة من الناس. ورغم كل هذه التحديات استطاع الإمام محمد بن سعود أن يتغلب عليها ويتخطاها ويوحد الدرعية تحت حكمه وكذلك يسهم في نشر الاستقرار في منطقة العارض.
- كان الإمام محمد بن سعود حاكما حكيما وفيا تربى في بيت عز وإمارة وتعلم السياسة وطرق التعامل مع الإمارات المجاورة والعشائر المتنقلة وقد كان له دور كبير في استتباب الأوضاع في الإمارة قبل توليه الحكم، في الوقت ذاته تحلى الإمام محمد بن سعود برؤية ثاقبة فقد درس الأوضاع التي كانت تعيشها إمارته والإمارات التي حولها خصوصا ووسط الجزيرة العربية عموما، وبدأ منذ توليه الحكم التخطيط للتغيير على النمط السائد خلال تلك الأيام. أسس الإمام محمد بن سعود لمسار جديد في تاريخ المنطقة تمثل في الوحدة والتعليم ونشر الثقافة وتعزيز التواصل بين أفراد المجتمع والحفاظ على الأمن، وقد كان له من الأبناء أربعة وهم عبدالعزيز وعبدالله وسعود وفيصل.
- تولى الإمام محمد بن سعود الحكم بعد حملة العيينة التي وقعت في منتصف عام ١١٣٩هـ/ ١٧٢٧م، ذلك أن زيد بن مرخان أمير الدرعية قرر القيام بحملة ضد العيينة. رأى حاكم العيينة محمد بن حمد بن معمر أنه لن يستطيع صد الحملة لذلك قرر أن يستخدم أسلوب الحيلة فأرسل لزيد أن يأتي هو وأفراد الأسرة الحاكمة وأعيان الدرعية وأنه مستعد لمنحهم ما يريدون فسار زيد ومعه نحو ٤٠ من الأمراء والأعيان وكان منهم محمد بن سعود، دخل هؤلاء العيينة ولما وصلوا إلى القصر كان ابن معمر قد دبر مكيدة لقتلهم فقتل زيدا ومعظم من كانوا معه. أما محمد بن سعود فقد لجأ وبعض من معه إلى أحد أبراج القصر متحصنين فيه. ونزل الإمام محمد بن سعود من البرج بأمان الجوهرة بنت عبدالله بن معمر وعاد إلى الدرعية حيث بويع إماما على الدولة الجديدة الدولة السعودية الأولى، ويعد عام ١١٣٩هـ/ ١٧٢٧م هو عام التأسيس للدولة السعودية الذي تغير فيه شكل الحكم من المدينة إلى الدولة. - قضى الإمام محمد بن سعود 40 عاما من القيادة والتأسيس حتى توفي عام ١١٧٩هـ / ١٧٦٥م. وقد تمكن في البداية من توحيد شطري الدرعية وجعلها تحت حكم واحد بعد أن كان الحكم متفرقا في مركزين وفرعين واهتم بالأمور الداخلية وعمل على تقوية مجتمع الدرعية وتوحيد أفراده، ونظم عملية حصول الدولة على الموارد، وأمر ببناء حي جديد في سمحان وهو حي الطرفية وانتقل إليه بعد أن كان حي غصيبة هو مركز الحكم لفترة طويلة، عمل على نشر الاستقرار في الدولة التي شهدت استقرارا كبيرا وازدهارا في مجالات متنوعة. وقد كان الإمام محمد بن سعود حريصا على الاستقلال السياسي وعدم ولائه لأي قوة في حين أن بعض دول نجد كانت تدين بالولاء لبني خالد. كما حرص على الاستقرار الإقليمي والدليل على ذلك إرساله أخاه مشاري للرياض لإعادة دهام بن دواس إلى الحكم بعد أن تم التمرد عليه.
- أدت القوة السياسية والاقتصادية للدولة إلى انتقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب إليها. وجاء انتقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضا نتيجة طبيعية لسياسة الإمام محمد بن سعود، فقد عرف عنه التدين وقد كان أخواه ثنيان ومشاري وكذلك ابنه عبدالعزيز ممن كانوا على تواصل مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب في العيينة فهذا يؤكد تفكير الإمام محمد بن سعود المستقبلي وأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب لم يخرج من العيينة إلا بعد أن دعاه الإمام محمد للقدوم للدرعية وأن هناك دولة قادرة على حماية الدعوة، حيث تبايعا على نصرتها. فقد رأى الإمام محمد بن سعود في تأييد الدعوة الإصلاحية أنها تتفق مع مبادئ الدولة التي يعمل على تأسيسها خاصة في الجانب الديني، لذا رأى بعض المؤرخين أن الإمام محمد بن سعود عندما علم بتخلي أمير العيينة عن تأييدها أوعز إلى البعض بدعوة الشيخ محمد إلى الدرعية لوجود الدولة فيها واستعدادها لحمايتها. ولا شك أن قدوم الشيخ محمد بن عبدالوهاب للدرعية كان حدثا مهما أسهم مع غيره من العوامل في تعزيز تأسيس الدولة، وقام الشيخ محمد بن عبدالوهاب بواجبه الديني وخدمة الدولة السعودية بكل إخلاص.
- سعى الإمام محمد بن سعود للتواصل مع البلدات الأخرى للانضمام إلى الدولة السعودية وتمكن ببراعة من احتواء زعاماتها وجعلهم يعلنون الانضمام للدولة والوحدة، وقام ببناء سور الدرعية للتصدي للهجمات الخارجية القادمة إلى الدرعية من شرق الجزيرة العربية، وبدأ بحملات التوحيد وذلك بقيادته بنفسه للجيوش، وتمكن من توحيد معظم منطقة نجد، وعمل على تأمين طرق الحج والتجارة فأصبحت نجد من المناطق الآمنة كما نجح في التصدي لعدد من الحملات التي أرادت القضاء على الدولة في بدايتها.
- واصل أئمة الدولة السعودية الأولى جهود المؤسس الإمام محمد بن سعود في استكمال توحيد البلاد وتكللت جهودهم بالنصر المبين، واتسعت الدولة في كل اتجاه داخل الجزيرة العربية وخارجها.
- هكذا كان تأسيس الدولة السعودية وانطلاقها في عهد الإمام محمد بن سعود إيذانا بظهور دولة ذات تأثير سياسي واقتصادي مكنها من الصمود والتوسع والتأثير داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها، وأصبحت نموذجا متفردا للوحدة السياسية في التاريخين العربي والإسلامي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي